الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: خاصية العناد والنزعة إلى الاستبداد

عبد القادر زاوي: خاصية العناد والنزعة إلى الاستبداد

عكست ثورات الربيع العربي واحتجاجاته في بداياتها العفوية والتلقائية وعيا شعبيا ناضجا وصادقا كان يرمي إلى كسر أغلال الذل والتبعية، والقطع مع منطق الرعية وانتظار المكرمات السخية، وكان يأمل في وضع اللبنات الأولى لتحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الآدمية، وبناء الديمقراطية الحقيقية، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات السياسية.

وبديهي أن تجد مطالب بهذه الأبعاد الإنسانية الراقية عددا كبيرا من المناهضين لها من الأشخاص والقوى والمؤسسات السياسية المنزعجة من هذه التحركات الجماهيرية، والراغبة في امتصاص فورة نقمتها بغية تفريغها من محتواها لتأبيد الأوضاع القائمة، التي لا تخدم سوى مصالحها الشخصية والفئوية والعائلية، ومن تحتمي به من القوى الخارجية.

وبدلا من تفهم دوافع الثورات والاحتجاجات، والعمل على التجاوب معها وإن بشكل مرحلي، وببرامج واضحة وشفافة وفي آجال معقولة ومحددة، رأت القوى المناهضة وفلول الردة المرتبطة بها أن ما يجري ليس انتفاضات، وإنما مؤامرات مدبرة بتنسيق داخلي وخارجي تستهدف إزاحتها عن السلطة والاستئثار بنعيمها ؛ الأمر الذي يقتضي المواجهة من أجل التمسك ببقاء الأوضاع كما هي.

ولذلك ومنذ اندلاع الثورات والاحتجاجات لم تأل هذه القوى المضادة جهدا في إبداع المناورات وتدبير المؤامرات، وتقديم بعض المساومات من أجل إجهاض الحراك الجماهيري المتصاعد، ووأد أي مبادرات إصلاح حقيقية سواء أكانت إصلاحات جذرية أم على شكل خطوات انتقالية جدية.

إن الإصرار على البعد التآمري للأحداث التي شهدتها المنطقة، وتوزيع الاتهامات على هذا الأساس تارة في اتجاه خلايا داخلية، وطورا في اتجاه قوى دولية، وثالثة صوب هذه أو تلك من القوى الإقليمية كشف عن وجود رفض مسبق وبعناد لمحاولة فهم وإدراك حقيقة ما يجري، وللتمعن في دروسه وتداعياته. وقد فرض هذا العناد انتهاج أسلوبين مختلفين يصبان رغم الاختلاف في ذات الاتجاه، اتجاه رفض التعامل مع الحقائق كما هي ماثلة للعيان :

- الأسلوب الأول هو استخدام القوة الأمنية والعسكرية لإخماد الثورات والاحتجاجات، مما أدى الى انزلاق التطورات سريعا نحو حروب أهلية حطمت ليس فقط البنيات التحتية، وإنما ما كان موجودا من لحمة وطنية واجتماعية.

- الأسلوب الثاني هو محاولة تنفيس الاحتقانات الاجتماعية وامتصاص موجات الغضب الشعبي عبر تبني سياسات احتواء ظرفية ومظهرية في معظمها، وذلك باتخاذ إجراءات دستورية تفاوتت هنا وهناك بين الطابع الشكلي والطابع الترقيعي، واتخاذ إجراءات أخرى اقتصادية واجتماعية أقرب في محتواها إلى الرشاوي منها إلى معالجة الاختلالات الحقيقية، وملامسة جوهر التحديات البنيوية.

ولم يكن مفاجئا أن ينعكس أسلوب المعالجة الداخلية للتحديات الثورية أو الاحتجاجية في طريقة اتخاذ المواقف على صعيد التطورات الإقليمية، وعلى صعيد ساحات الحراك الشعبي المختلفة، حيث طغى السعي إلى تأمين المصالح الحيوية للأنظمة على غيره من الاعتبارات عند اتخاذ المواقف؛ الأمر الذي جعل هذه المواقف تبدو بعيدة عن أي طابع مبدئي أو أخلاقي، متسمة بالانتقائية والتناقض.

وبعد ست سنوات من اندلاع أحداث الربيع العربي، والهجمة الشرسة عليه سياسيا واقتصاديا ودينيا، والإنفاق الضخم لاحتوائه ووأد تحركاته، والتشويه الإعلامي الكثيف لمجرياته، إذ تم تصويره تارة خريفا وطورا شتاء لم تخب جذوة الشرارة التي أوقدها لدى الشعوب التي تحررت معظمها من أسر الخوف، وباتت أكثر جرأة في التعبير والإفصاح عن تذمرها، وعن آمالها وطموحاتها.

لقد أحدثت ثورات الربيع العربي واحتجاجاته رجة عميقة في مجتمعات الدول العربية والإسلامية وبنياتها المؤسسية بشكل لن تعرف معه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سبيلا إلى الاستقرار مطلقا، وعليها إذا ما استمرت قوى مناهضة التغيير تكابر في مواجهته وتحارب المنادين به والمدافعين عنه أن تعتاد على العيش تحت وطأة التوتر والتوجس، وعدم الثقة المتبادلة بين الكيانات المشكلة للمنطقة، وداخل هذه الكيانات نفسها بين مكوناتها المجتمعية، وبين الشعوب وأنظمتها.

أزيد من تريليون دولار صرفت أو ضاعت في تقوية الأجهزة العسكرية والأمنية، وفي شراء الذمم وصغار النفوس لوأد حركة جماهيرية هي أقرب إلى الحتمية التاريخية والصيرورة الإنسانية. وقد كان بالإمكان صرف ربع هذا المبلغ في إصلاحات سياسية واقتصادية وتفادي الخراب المدمر للإنسان والعمران. ولكن ما العمل عندما تستأسد خاصية العناد وتسود النزعة إلى الاستبداد؟