الخميس 18 إبريل 2024
سياسة

بن يونس المرزوقي: قراءة في البلوكاج السياسي والمؤسساتي بالمغرب

بن يونس المرزوقي: قراءة في البلوكاج السياسي والمؤسساتي بالمغرب بن يونس المرزوقي، أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بوجدة

الوضعية الحالية، تدعونا إلى التساؤل أكثر من أي وقت مضى حول الحياة السياسية ببلادنا. وإذا كانت الإجابات مُتعددة، فإني سأحاول الاقتصار هنا على ثلاثة جوانب اعتبر أنها تُؤثر بشكل مباشر على صيرورة الأحداث.

 

lالجانب الأول، ذو طبيعة دستورية، حيث إنني ألخص الوضعية في سؤال واحد: هل خلق دستور 2011 من المؤسسات والهيئات ما لا تحتمله الحياة السياسية؟ أو بصيغة أخرى، هل تُشكل كثرة المؤسسات والهيئات عائقا أمام عملية بلورة سياسة عمومية واضحة؟

ليس لدي جواب جاهز، لكن سبق لي أن وضعت بعض المؤشرات التي أعتبرها ذات دلالة في الوضعية الحالية. إننا أمام أوضاع قانونية وواقعية مُتشعبة:

فهناك أولا مؤسسات دستورية كانت قائمة عند إصدار الدستور الجديد، مازالت تُمارس مهامها، رغم تغير أو تعديل النص القانوني الذي يُؤطرها، أذكر من بين ذلك: المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومجلس الجالية المغربية بالخارج، والوسيط، ومجلس المنافسة، وهيئة النزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري.

والأكثر من هذا، أن بعضا منها انتهت صلاحيته القانونية، والبعض الآخر متوقفا عن العمل لأسباب.

وهناك من جانب آخر مؤسسات وهيئات جديدة، تم التصويت على القوانين المؤطرة لها، لكنها لا زالت لم تر النور. وأذكر من بين ذلك: هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي.

مناسبة هذا التذكير، هو أن كل مؤسسة أو هيئة، إلا وتُعالج جانبا يُؤثر بشكل أو بآخر على السياسة العمومية للحكومة. فهذه الأخيرة، طبيعي أن تجد نفسها وسط «ركام» من التوصيات والاقتراحات والانتقادات، ليس من المؤسسات المذكورة أعلاه فقط، ولكن من مؤسسات أخرى من قبيل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والمجلس الأعلى للحسابات، والمراقبة البرلمانية للعمل الحكومي بكافة أشكالها... فضاع برنامجها الذي صادق عليه مجلس النواب، وأصبح همها هو ملائمة سياستها مع كل تقرير صادر عن مؤسسة أو هيئة ما (هذا دون الحديث عن المؤسسات الدولية).

ولا تتوقف الوضعية عند هذا الحد، بل يجب استحضار مؤسسات أخرى غير مدسترة، لكن تأثيرها باد للعيان من قبيل بنك المغرب، والوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات، والمندوبية السامية للتخطيط...، بل والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وجمعيات المجتمع المدني والإعلام بمختلف تلاوينه والرأي العام الوطني.

إن الهدف من هذا السرد، يستهدف القول إننا وصلنا لوضعية تُشبه البلوكاج، وبالتالي كادت «السياسة» أن تختفي وراء ما تُروج له الحكومة نفسها من مخططات استراتيجية، برامج تنفيذية، برامج قطاعية مُهيكلة... فساهمت الحكومة بدورها بقسط وافر في البلوكاج الحالي.

 

lالجانب الثاني، ذو صلة بالديمقراطية التشاركية، والذي اعتبر أنه النتيجة الحتمية للبلوكاج الذي تحدثت عنه. فإذا كان من المتعارف عليه، أن مشاركة الفئات المعنية في بلورة أية سياسة عمومية، يخلق لديها الحماس اللازم عند التنفيذ، فإن ما نُلاحظه لحد الآن يتمحور حول السؤال التالي: لماذا لا يُشرك المسؤولون المواطنات والمواطنين في البرامج التي يعتمدونها؟

طبعا لا أقصد بعض الاستشارات الشكلية، ولا الاستشارات التي قد تتسم بإقصاء الرأي الآخر، وإنما أقصد الاستشارة التفاعلية التي يستمع فيها كل طرف للآخر ويستفيد منه. يكفي مثلا أن أشير إلى مسطرة اعتماد بعض النصوص القانونية التي تمت وسط نقاش عمومي واسع، ونالت حظا وافرا من المناقشات المؤسساتية، لكن النتيجة كانت «تمرير» النص الأصلي الذي جاءت به الحكومة، وكأن كل النقاش العمومي ليس إلا لغوا يستهدف إخماد الأصوات بعد أن تمل من النقاش.

وعلى هذا الأساس، فإن هذه القطيعة بين المجتمع «السياسي» والمجتمع «المدني» لا يُمكن أن توصل إلا لهذه نتيجة يطغى عليها الجمود والرتابة، وأكاد أقول «القنوط».

 

lالجانب الثالث، ذو صلة بالرأي العام الوطني، فالمجتمع المغربي، يعرف حركات احتجاجية ذات طبيعة اجتماعية واضحة، إلا أن التعامل المؤسساتي والسياسي معها، لم يُساهم بأية مبادرة تعبوية تُعيد الأمور لنصابها. فالمغربي كثيرا ما يحتاج فقط إلى الاعتراف له بصحة موقفه، والتحاور معه، وإدماجه في مسلسل اختيار البرامج الملائمة.

ولو أخذنا ما وقع بشمال المغرب لوحده كنموذج، لوجدنا أن الفكرتين السابقتين تنطبقان تماما على هذه الوضعية: ليس هناك لا تدخل مؤسساتي مُهيكل، ولا حوار اجتماعي. وحده التدخل الملكي من خلال إعفاء المسؤولين عن الاختلالات التي عرفها مشروع الحسيمة منارة المتوسط، كان مُتجاوبا ومُتفاعلا مع الأوضاع.

وعندما نستعرض تدخل المؤسسات الأخرى، نجد أنه المجلس الوطني لحقوق الإنسان، تحمل مسؤوليته في حراك الريف، حسب صلاحياته، لكن، وكما سبق أن لاحظت، كانت هناك إمكانيات مؤسساتية أخرى عديدة:

-  كان على المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أن يبادر بصياغة نموذج تنموي بالشمال بصفة عامة، أو على الأقل بإقليم الحسيمة؛

- وكان على المجلس الأعلى للحسابات، أن يطلق حملة تدقيق حسابات الجماعات الترابية بالمنطقة وكذا الغرف المهنية بها والمؤسسات والمقاولات العمومية، تكملة لما قام به حول مشروع منارة المتوسط؛

- وكان على الوسيط أن يبادر بجمع كل الشكايات الواردة على مؤسسته من المنطقة ومعالجتها وإصدار تقرير بذلك؛

- وكان على مجلس الجالية المغربية بالخارج أن يبادر إلى اللقاء بمغاربة العالم المنحدرين من الشمال قصد تعبئتهم وتوجيههم للمساهمة في حل إشكالات المنطقة؛

- وكان على الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري أن تدلي برأيها حول تغطية وسائل الإعلام العمومية للحراك ومدى موضوعيته؛

- وكان على مجلس النزاهة ومحاربة الرشوة والحد منها أن يبادر بفضح ونشر ما يتوفر عليه من معطيات أو على الأقل أن يطلق برنامجا جهويا يهم الشمال بصفة عامة؛

- وكان على مجلس المنافسة أن يبحث في الصفقات الكبرى بجهة الشمال للوقوف على الاختلالات التي تعرفها؛

- وكان على مجلس النواب أن يبادر بالتشديد على مراقبة العمل الحكومي وانعكاساته على الريف، وحتى إحداث لجنة لتقصي الحقائق، وإدخال تعديلات على القانون المالي لدعم إقليم الحسيمة، وإعفاءات ضريبية لتشجيع المستثمرين على التوجه بمشاريعهم لإقليم الحسيمة؛

- وكان على مجلس المستشارين، الذي خصه الدستور بالأسبقية في الشؤون الاجتماعية أن يعكس صوت الحراك بالريف في كل أشغاله؛

- وكان على الحكومة أن تقوم بمبادرات جريئة من قبيل تدقيق حسابات كل هيئات الدولة من خلال المفتشية العامة للمالية، وقيام كل عضو في الحكومة بمحاسبة المسؤولين الجهويين والإقليميين والمحليين، وتسريع وتيرة العمل؛

- وكان على الأحزاب السياسية أن تنخرط في هذا الحراك، ليس من باب الانتهازية، ولكن من باب التضامن والمؤازرة والتنظيم والتأطير، واللقاء بمسيري الحراك وصياغة البيانات، وتحضير برامج محلية وإقليمية وجهوية على صعيد الجماعات التي تسيرها أو الغرف المهنية التي تشارك في تدبيرها، ومحاسبة المسؤولين الحزبيين في الهيئات المنتخبة؛

- وكان على المنظمات النقابية أن تصوغ ملفات مطلبية في القطاعات التي تؤطرها، وتنخرط بدورها في الحراك بمطالب واضحة؛

- وكان على جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية أن تكون حاضرة في الميدان؛

- وكان على برلمانيي المنطقة توحيد جهودهم، وتأسيس إطارات مع كل المنتخبين في الجماعات والغرف المهنية؛

إمكانات كثيرة ضاعت، وتضيع معها فرصة حل المشاكل الاجتماعية.

ولعل أفضل ما يُمكن أن نختم به، هو القاموس المستعمل في علاقة المسؤولين بالمواطنات والمواطنين، والذي تطغى عليه لغة «الحرب»، فهم دائما يُذكروننا أنهم «يُحاربون» الأمية، و«يُحاربون» الجفاف، ويُحاربون» الفساد، ويُحاربون» الرشوة، ويُحاربون» البناء العشوائي، و«يُحاربون» السكن غير اللائق، و«يُحاربون»... و«يُحاربون» ... لوحدهم.. وكأن المجتمع غير معني.

 

لذلك، أصبح من الطبيعي أن تكون ردة فعل المجتمع عدم الاكتراث، بل أكاد أقول ردة فعل قد تصل حد «محاربة» الإصلاحات.