الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

مريد الكلاب: علمانيون متدينون ..

مريد الكلاب: علمانيون متدينون ..

في كثير من بقاع الأرض مآذن يصدق فيها قول الشاعر محمد إقبال: "منائركم علت في كل حي.. ومسجدكم من العباد خالي/وجلجلة الآذان بكل صوت/ ولكن أين صوت من بلال".

هذا الواقع المؤلم لا ينطبق على المقدسيين الذين  يحملون أرواحهم على أكفهم في كل صلاة تجمعهم صفوفها في المسجد الأقصى، حيث يجتازون متاريس الاحتلال ويخوضون في وحل المستوطنين الدمويين قبل الوصول إلى الصلاة ، ويأسر الخشوع قلوبهم خلف أمامهم رغم أنف المخاطر التي تهددهم بإحراق المسجد بمن فيه أو دخول صهيوني بسلاحه الهمجي.. وهذا شأن الفلسطينيين منذ سنين وعبر تاريخ نضالهم المشرف رفقة شركائهم من أحرار الأرض الذين قاسموهم الأمل والألم، وعلى رأسهم إخوانهم المغاربة الذين اتخذوا من القدس وطنا ليكونوا حصنا منيعا في اللوذ عنه.. ولن ينسى التاريخ صمودهم الأسطوري عندما تم تدمير حيهم (حي المغاربة) في القدس من قبل وزير حرب الكيان الصهيوني آنذاك موشيه ديان عام1967؛ فقام المغاربة بتحدي إرادة الغاصب المحتل، وعملوا على مواجهته وقهره ببناء باب للمدينة أطلق عليه باب المغاربة، ليبقى حتى يومنا هذا شاهدا على الوجود المغربي في التاريخ الفلسطيني بأرواح الشهداء، أمثال سيدي صالح حرازم والشيخ المقري التلمساني وغيرهم من الأبطال.. وذكر ذلك في سياق الحديث عن تمسك المقدسيين بشعائرهم واجب لأن الواقعية القول بأنهم لم يكونوا وحدهم في حرب الصمود المستمرة إلى اليوم، فلا يوجد  خيار غير الرباط في القدس والدفاع عنه بالغالي والنفيس.

واليوم، وفي آخر الأحداث، تظهر قضية الساعة لنسمع من الكيان الصهيوني  جعجعة تطالب بوأد أصوات المآذن لكونها تزعج مستوطنيهم كأسلوب جديد في حربهم وعدوانهم. وهذا الطرح ليس غريبا وإنما هو متوقع في ظل ظروف الوهن والضعف الذي يسود أمتنا ويجعل عرضها وأرضها ومقدساتها كلأ  مباحا، ولكني سأستغل هذه الرغبة الصهيونية لأدلل على أن القوم يتشبثون بيهودية دولتهم  معبرين عن الاعتزاز الديني والبناء السياسي عليه واستخدامه كبنية تحتية لكل استراتيجياتهم.. وهذا هو صلب الموضوع وأساس طرحي هذا لأنه جاء في الوقت الذي يرفض فيه البعض من بني جلدتنا تداول الأحزاب الإسلامية للعمل السياسي، مبررا ذلك بأن العلمانية أو الليبرالية هي خياره واختياره. وهنا أتذكر قصة تحكي لنا أن كلبا كان يحب الأغنام أكثر من راعيه وراعيها...

إذا كانت المدارس التي أنتجت الفكر العلماني استطاعت أن تخلق موازنة حيال موقفها من الدين، فلماذا لا نعيد التأمل في رؤيتنا والتوقف عن السباق الأعمى في اتجاه إرضاء نزعة عبودية الأمم الضعيفة للأمم القوية، والمبشر أن هذا الداء الفكري قابل للمداولات، وقد وجدنا في الواقع العربي ما يؤكد ذلك، عبر التجربةالمغربية التي اتجهت فيها حكمةالمغاربة إلى التصويت لترشيح العدالة والتنمية للمرة الثانية مجسدة قناعتهم بضرورة منح الاسلاميين مزيدا من الوقت لتنفيذ ما رسموه من برامج واستراتيجيات، وأن فترة انتخابية واحدة لا تكفي للحكم عليهم، وفي تلك الاصوات الانتخابية رسالة للعلمانيين والاشتراكيين من الأحزاب المغربية أن كفوا عن وضع العقبات والعراقيل أمام جهود بنكيران ومدوا إليه اياديكم، لاسيما أن أحد ركائز الفكر العلماني هي تقبل الآخر ومنحه حق الوجود.. فليعمل الكل المغربي من أجل المغرب، وليكن العلماني والاسلامي يدا واحدة لتصل الرسالة ذات المغزى القوي بأن الاختلاف في الأسلوب والمنهج لا علاقة له بوحدة الهدف وسمو مصلحة الوطن الذي ينعم  تحت مظلة راية عز وفخار في ظل الملك محمد السادس الذي تقبل كل ألوان الاختلافات ومنحها حقها في الوجود، وأسهم في تأسيس القواعد لديمقراطية حقيقية تخطو قدما نحو المواكبة ولكنها تلبس تاج المبادئ الدينية والموروث الثقافي الأصيل.

وليت الأمة استفادت من هذه السياسة وأسقطتها على برامجها، وخصوصا في مواجهة المحتل الغاصب لمقدساتنا. يجب على من يطالب بإسكات أصوات المآذن في القدس أن يعرف بأننا وإن تلونت أطيافنا السياسية وتنوعت مشاربنا الفكرية، نعتز بديننا ونفتخر بشعائرنا ولا نجامل فيها أحدا..