الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عصام واعيس:إصلاح التعليم في المغرب.. غلبة الألفاظ على المعاني

عصام واعيس:إصلاح التعليم في المغرب.. غلبة الألفاظ على المعاني

قمتُ قبل أسابيع بتغطية أشغال أحد اللقاءات الجهوية التي ينظمها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالمغرب، حول سبل تنفيذ توصيات تقرير كان أصدره منتصف العام بعنوان "الرؤية الإستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية 2015-2030". تضمن اللقاء تذكيراً بالتوصيات وعروضاً قدمتها القطاعات الوزارية المعنية بتنزيل هذه الرؤية تشرح فيها كيف ستقود الإصلاح على الأرض، كيف ستجعل كل فاعل في إصلاح التعليم قادراً على تملك زمام هذه الرؤية.. هنا بالضبط كانت الصدمة..

العروض التي من المفترض أن تجيب بشكل واضح عن هذا السؤال جاءت عبارة عن احتفاء لغوي واستعارات وكنايات وحقول دلالية متنافرة وتكلف بياني في شرح التوصيات بشكل معيب. مرة بالتداخل فيما الأصلح فيه التمايز، ومرة بالدمج فيما الأصل فيه الاستقلال، ومرة بالتفريع والتفصيل فيما يحتمل الضم والتلخيص، وأحيانا بالتعميم فيما الأصل فيه الاختصاص، ناهيك عن التناقض..

كانت العروض المتداخلة والتي تعيد بعضها بعضاً تؤكد حقيقة واحدة.. هي حقيقة اللفظية في التعليم العربي. قطاعات (1) التربية الوطنية، و(2) التكوين المهني، و(3) التعليم العالي والبحث العلمي، تعطي للصحفي والدارس مثالاً عملياً عن طرح الدكتور يزيد عيسى السورطي في كتابه "السلطوية في التعليم العربي حول اللفظية".

اللفظية.. يقول السيورطي "هي استخدام كلمات رنانة لا تحتوي في حقيقة الأمر على مضمون كبير (...) تعني غلبة الألفاظ على المعاني" وعلى هذا المنول تظهر "اللفظية في الأهداف التربوية في نقص الدقة والوضوح واتسام الأهداف بالسيول اللغوية والزخارف الخطابية والصيغ الفضفاضة وبالاعتماد على لعبة الكلمات أو التلاعب اللفظي".

لنقرب القارئ الكريم من الصورة.. يقترح قطاع التربية الوطنية 26 مشروعاً لتنزيل تقرير المجلس الأعلى لإصلاح المدرسة المغربية. لنلقي نظرة على مثالين من المشاريع المقترحة وأهدافها، أحد المشاريع عنوانه "تحسين جدوى وجاذبية المدرسة" وهدفه هو "إرساء مدرسة ذات جدوى وجاذبية"! (الترادف)، وآخر عنوانه "تجديد النموذج البيداغوجي القائم" وهدفه هو "تطوير نموذج بيداغوجي وتكويني قوامه التنوع والانفتاح والملاءمة والابتكار" (ماذا لو وضعنا أي كلمة أخرى مكان نموذج بيداغوجي مثلا نظام تدريس وقلنا قوامه كذا وكذا؟ ألن تنطبق عليه صفات الانفتاح والابتكار..)، أما مضامين هذين المشروعين وغالبية بقية المشاريع المقترحة فتجدها مليئة بالكلمات غير الدقيقة من قبيل (تعزيز كذا - الارتقاء بـ..، النهوض بـ..، تحسين..، ضمان..، الرفع من..).

نفس الشيء تقريباً بالنسبة لقطاع التكوين المهني الذي يقترح 6 مشاريع تتضمن كثيراً من الكلام والتفصيل واللفظية ووعوداً بإرساء آليات وكتابة دلائل خاصة بسوق التكوين والتشغيل، وإحداث لجان، وإقامة شراكات، وصياغات لغوية من قبيل تلك الواردة في الهدف المسطر للمشروع الخامس "تعزيز وتثمين مكانة التكوين المهني وتحسين التقائيته مع مكونات منظومة التربية والتكوين من أجل تقوية حظوظ الإدماج المهني في النسيج الاقتصادي"، أو تلك الواردة في المشروع السادس "وضع نظام للتكوين المهني أكثر انفتاحا وذي جودة ومتسم بالنجاعة والفعالية يرتكز على حكامة متجددة ومندمجة"..

المشكل أن السؤال الكبير الذي يعتمل في عقول الجميع هو سؤال الكيف؟ كيف سنضع نظاماً أكثر انفتاحاً؟ كيف سنعزز جاذبية المدرسة؟ المشكل أنك عندما تذهب إلى "مضامين" المشاريع المفترض أن تجيب عن هذا السؤال، تجد أكثريتها مليئة بعبارات مشابهة تحتاج بدورها لمن يفك لغزها، عدا بالنسبة لتلك الخاصة بقطاع التعليم العالي والبحث العلمي التي تحيل إلى مبادرات عملية، وإن لم تسلم من مشكل السيولة اللغوية والتدفق اللفظي..

كيف إذن هو السؤال.. كيف يمكن أن نتحدث عن التفوق الدراسي وإصلاح المدرسة وما زال النجاح يقرر بالحصة quota أو النسبة في أطوار التعليم الثلاثة الابتدائي والإعدادي والثانوي؟ كيف ستتعامل مؤسسة إعدادية مع تلاميذ حازوا شهاداتهم الابتدائية بـ"تسمين النقاط" doping لتحقيق نسبة النجاح المطلوبة؟ ماذا سيفعل أستاذ لغة فرنسية بالثانوية أمام طالب مر طوال أطوار التدريس بين أقسام اللغة الفرنسية بمعدلات تتأرجح بين 3/10 و4/10؟ كيف سيشرح له مؤلفات موليير وبالزاك؟

لماذا تناقض الرؤية الإستراتيجية للإصلاح نفسها في نقطة تدريس اللغات.. فتقول بتعزيز وتنمية اللغة العربية في مختلف مجالات العلم والمعرفة، ثم تأتي بعدها لتقصيها من بعض مجالات العلم والمعرفة لتسندها إلى الفرنسية بدعوى التناوب اللغوي على أساس تدريس بعض المواد بالفرنسية في التعليم الثانوي على المدى القريب، وفي التعليم الإعدادي على المدى المتوسط؟ لماذا توجد إرادة لإعطاء اللغة العربية دوراً متحفياً فولكلورياً؟

من الصعب تنزيل هذه الرؤية -التي تبقى طموحة وإيجابية على كل حال- في جسد التربية والتعليم السقيم دون وضعها هي نفسها محل نقد وتحليل. فلا توجد حقيقة قصوى، ورغم جهودهم المقدرة في تصميم هذه الرؤية فأعضاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ليسوا أنبياء أو ملهمين، وصعب أيضاً إرساء مدرسة جديدة ترتقي بالمجتمع المغربي من مجتمع مستهلك للمعرفة إلى مجتمع منتج للمعرفة إذا لم تطور القطاعات المعنية مشاريع متناهية الدقة، أصيلة ومبدعة، خالية من الحشو والصيغ الفضفاضة، خالية من اللفظية، وقابلة للمناقشة والحذف والتعديل.. وبالخصوص الحذف. كثيرا من الحذف لتتضح الرؤية!