الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أزراج عمر:النظام الحاكم وشبح الفرنكفونية في المجتمع الجزائري

أزراج عمر:النظام الحاكم وشبح الفرنكفونية في المجتمع الجزائري

في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمة السياسية في البلاد، وتزداد أسعار المعيشة ارتفاعا يبرز شبح مرعب آخر يهدد ما تبقى من الهوية الوطنية وفي صلب ذلك جزؤها المركزي المتمثل في اللغتين العربية والأمازيغية. ففي التقرير الصادر في الأيام الماضية عن البرلمان الفرنسي، ورد اسم الجزائر كبلد فرنكفوني بمعايير الحكومة الفرنسية الحريصة على مواصلة تأبيد التبعية اللغوية والثقافية على الشعب الجزائري على حساب الهوية الوطنية الجزائرية. أكد هذا التقرير أن 20 بالمئة من الجزائريين يتكلمون اللغة الفرنسية ويتعاملون بها في حياتهم اليومية، وأكثر من ذلك فقد بيّن هذا التقرير أن 52 جامعة جزائرية منخرطة منذ زمان، وبإذن رسمي من النظام الجزائري، في تنفيذ برامج العمل مع المنظمة الفرنكفونية من أجل تطوير اللغة الفرنسية.

والجدير بالذكر أن هذه الجامعات لم تنفذ أي برنامج لتطوير اللغة العربية وإنقاذ اللغة الأمازيغية من الموت المنهجي. وفي الحقيقة فإن اللغة العربية على مستوى منظومة التعليم الابتدائي والتكميلي والثانوي، وفي الجامعات الجزائرية تتخبط منذ سنوات في مشاكل كثيرة، في مقدمتها انحطاط مستوى الطلاب والطالبات إلى درجة أن 80 بالمئة منهم لا يتقنون صياغة الجمل السليمة ناهيك عن التفكير السليم بهذه اللغة. من يتجول في المدن الجزائرية المتوسطة أو الكبيرة يلاحظ سيطرة اللغة الفرنسية على المحيط بكامله ومن الأمثلة الدالة على ذلك محافظة تيزي وزو ومحافظة بجاية المفرنستين على مستوى المحيط الذي يفترض أنه هو الحاضنة الطبيعية للغة والهوية. وهكذا نجد أن كلا من اللغة العربية واللغة الأمازيغية غريبتين في عقر داريهما في هاتين المحافظتين وغيرهما من محافظات الوطن. هذا الخلل الخطير يحدث أمام مرأى المسؤولين في المجلس الأعلى للغة العربية، ووزارة الداخلية وفروعها في المحافظات، علما أن هذه الظاهرة الخطيرة تمثل ضربة قاضية موجهة ضد الشخصية الجزائرية بأبعادها اللغوية والثقافية الوطنية.

وفي الآونة الأخيرة نقلت الأجهزة الإعلامية الجزائرية المكتوبة أن وزيرة التربية الوطنية صرحت بأن 60 بالمئة من التلاميذ يتخلون عن الدراسة قبل بلوغ سن 16، كما نقل رسميا عن هذه الوزيرة أن ما كان يدعى، في فترة حكم الرئيس هواري بومدين، بالتعليم الإلزامي لجميع الطلاب والطالبات قد تم التخلي عنه، وبهذا الخصوص تفيد الإحصائيات أن أقل من 40 بالمئة فقط من طلاب الطور الثانوي يواصلون دراستهم، وأن نسبة مجهرية منهم تنجح في امتحانات الثانوية العامة (الباكالوريا)، وفضلا عن كل هذا فقد ذكرت جريدة الشروق اليومي أن 70 بالمئة من المترشحين للثانوية لم يحصلوا على المعدل. هذه الأرقام تبرز أن الجزائر مقبلة على كارثة كبرى، حيث يتوقع أن ترتفع نسبة الأمية بين الأجيال الشابة الجزائرية بنسبة عالية في المستقبل القريب. ولا بد من التذكير بالصراع الذي انفجر مؤخرا بين وزارة التربية وبين النقابات الممثلة للمجتمع المدني حول وثيقة ميثاق أخلاقيات التربية والتعليم، علما أن هذين الطرفين في الصراع يتناطحان منذ مدة طويلة حول قضايا هامشية لا تمس جوهر سياسات التعليم الفاشلة التي تتراجع باطراد ولم تجد الحلول الناجعة إلى يومنا. إن هذين الطرفين يصران على حصر المشكلة الأساسية في دفع الرواتب في الوقت المحدد وفي تحسين معاشات إطارات التعليم، فضلا عن مشاكل الاكتظاظ والإضرابات، ولكنهما ينسيان أن أم المشكلات تتمثل في تدهور مستوى المنظومة التربوية، كما أنهما قد أدارا الظهر لكل المقترحات التي قدمت وفي مقدمتها المقترح الداعي إلى فتح النقاش الواسع بمشاركة الوزارة المسؤولة على هذا القطاع والنقابات وتنظيمات المجتمع المدني والمثقفين وأجهزة الإعلام والباحثين في الشؤون البيداغوجية والبرامج والأدباء والسياسيين، وإطارات التعليم العاملة في هذا الحقل، من أجل التحاور حول الكيفيات العلمية التي بموجبها تتم عملية إعادة النظر جذريا في واقع هذه المنظومة وحصر أوجه النقص فيها ومن ثم رسم تصور للخطوط العريضة للمضامين الأكثر حداثة وللوسائل التي يتم بواسطتها تحقيق الإقلاع التعليمي التربوي الذي يضمن للجزائر ربح رهان النهضة التعليمية الحديثة التي تمثل الشرط الجوهري لأي تحول ثقافي وفكري واجتماعي واقتصادي وسياسي في البلاد. والأدهى هو أن النظام الحاكم في الجزائر لا يملك مشروعا للمنظومة التربوية وخاصة ما يتصل جوهريا بربط هذه المنظومة بالتنمية الفكرية والفنية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والسياسية. إنه إلى حد الآن لا يوجد هذا الربط الذي من دونه يبقى التعليم مجرد معلومات محضة معلقة في الفراغ معزولة عن أي مشروع وطني متكامل ومحدد المعالم. النظام الجزائري اختزل التعليم بشكل عام في ما يسميه المفكر مصطفى صفوان في معرفة بنية اللغة أو الآلة أو الظاهرة الاجتماعية أو العلمية أو حتى الظواهر الثقافية والفكرية والسياسية. وبهذا الخصوص يقول مصطفى صفوان “إن بنية اللغة ليست هي اللغة. يمكن مقارنة من يتعلم لغة معينة بذاك الذي يمكن أن يقول شيئا بصدد فن الخياطة، من دون أن يمتلك كفاءة الخياطة هو نفسه”.

وهكذا نرى أن النقاش ينبغي أن ينصب على الكيفية التي بمقتضاها تتمكن الأجيال في مؤسساتنا التعليمية من الانتقال من “حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء” وفقا لمقترح المفكر زكي نجيب محمود، وهذا الانتقال مشروط بالعمل على إتقان الصنائع المادية وبالتشبع بصناعات الفكر والأخلاق والجماليات وأسلوب الحياة المتحضرة. في هذا السياق ينبغي التمييز بين التعليم الشكلي والحصول على الشهادات، وبين تثقيف وبناء فكر الأجيال الناشئة، فالأول هو مجرد عملية حشو وتكديس للمعلومات والمعارف التي تبقى مجرد طلاء خارجي، أما التثقيف التربوي فيعني تكوين وتربية وصنع العقل النظري والعملي، ورأسمال الفاعلية في النسيج الداخلي للشخصية القاعدية للطلاب والطالبات، وغرس الأخلاقيات الحضارية والتمدن وجعلها أسلوب الحياة اليومية. لا يمكن أن تفعّل هذه التصورات لتحدث تحويلا عصريا في المجتمع الجزائري إذا لم يمهد لها بالمراجعة الجذرية لكل الأسباب الحقيقية التي أفرزت الخلل الذي يعطل عملية الانطلاق الجادة. من الملاحظ أن معظم النصوص التي تدرس في الجزائر مستوردة من الخارج وألفها أجانب عبروا فيها عن مجتمعاتهم وهوياتها وخصوصياتها التاريخية والاجتماعية. إن هذه المشكلات الحقيقية وغيرها لا يكترث بها السياسيون الجزائريون المتمسكون بالسلطة، ولا تطرحها المعارضة للنقاش الشعبي لتدفع بها إلى الواجهة قصد إيجاد الحلول لها. لهذه الأسباب جميعا عجز النظام في الجزائر على بلورة مشروع بناء الإنسان الجديد الفاعل، والحداثي والديمقراطي والمحصن ضد التبعية الثقافية واللغوية.