في جو يجمع بين الحماس النضالي ونوستالجيا تتجرع مرارة تعذيب سنوات خلت، اجتمع بالرباط صبيحة يوم الاحد 13 دجنبر 2015 المئات من ضحايا سنوات الرصاص وفاعلون حقوقيون، استجابة لنداء لجنة متابعة توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، في مسيرة حقوقية وطنية تأتي في ظل وضع عام سمته الأساسية تراجعات حقوقية كبيرة دوليا ووطنيا، تحت يافطة محاربة الإرهاب وتلكؤ الدولة عن تنزيل توصيات هيئة الانصاف والمصالحة التي أقرتها أعلى سلطة في البلاد، ووجود حكومة يرأسها حزب على علاقة متوترة بحقوق الانسان حتى أنها جعلت من التشريعات المرتبطة بها اخر اهتماماتها، مسايرة صقور الدولة في الاجهاض على المكتسبات القليلة التي تحققت بدماء وآلام شهداء ضحايا سنوات الجمر والرصاص.
وقد حضر هذه المسيرة التي جابت أرجاء شارع محمد الخامس بالرباط أغلب وجوه الجسم الحقوقي المعتاد حضورها في مثل هذه المناسبات، وتمثيليات جل الأطياف الحقوقية من جمعيات ومنظمات، يتقدمها المنتدى المغربي من أجل الحقيقية والإنصاف، باعتباره المنظمة التي تمثل ذوي الحقوق، ممن تعرضوا للتعذيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مع حضور عائلات الضحايا المختطفين ومجهولي المصير.
غير أن المميز كان هو الحضور اللافت لما يعرف "بالضحايا خارج الاجل"، والذين تمحورت كل شعاراتهم حول مطالبهم الاجتماعية والاقتصادية وحل مشاكلهم الخاصة، موازاة مع غياب الضحايا المؤسسين للمنتدى المغربي من أجل الحقيقية والانصاف، ومن الذين حصلوا على تعويضاتهم، وهذا ما جعل الكثيرين يتساءلون حول طبيعة تعاطي هؤلاء، داخل المنتدى، مع هذه الخطوات النضالية وهل هي تدخل ضمن تصور نضالي عام للضحايا؟ أم ضمن دفاع هؤلاء عن مصالح شخصية فقط؟ وهل هناك من يعتبره مجرد وسيط اجتماعي للضحايا وليس فاعلا في وضع استراتيجية لما بعد التعويض ولضمانات عدم التكرار؟ وحتى إذا لم ننفي أحقية الضحايا في الحصول على تعويضات مقابل ما عانوه من ويلات خلال سنوات الرصاص، فهل يحق لهم في محطات نضالية حقوقية التخلي عن الآخرين الذين لم يتمكنوا من الحصول على تعويضاتهم؟ وهل يحق لهم التخلي عن مطالب شعب برمته؟ ولعل هذا ما يجعلنا نطرح تساؤلا كبيرا: هل تحول الرهان السياسي –لدى البعض- من أجل الوصول إلى دولة تضمن الحقوق والحريات والكرامة، إلى رهان من أجل تحسين الظروف الحياتية الخاصة؟ ألا يعني هذا تحول الماضي النضالي إلى رأسمال مادي -وليس رمزي- للتكسب منه؟ وما هو مستقبل ضمانات عدم التكرار في ظل سيادة منطق براغماتي شخصي لدى مجموعة من المناضلين وبالأخص الضحايا؟
وفيما ركز الضحايا على المطالب الفئوية اتجه الفاعلون الحقوقيين إلى التركيز على مطلب الكشف عن الحقيقية الكاملة واستراتيجية وطنية للحد من الافلات من العقاب وآلية للوقاية من التعذيب، وقد كان في مقدمتهم الرئيس الحالي للمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والانصاف مصطفى المنوزي، الذي احتفل بتاريخ ميلاد ابنته الصغرى ألين داخل المسيرة، وهو نفس التاريخ الذي وضع فيه شكاية ضد مجهول في قضية الحسين المنوزي ومن معه من نزلاء ب ف 3، والتي حفظتها النيابة العامة بدعوى أنها ضد مجهول، رغم أن الشكاية أوردت عددا من الحقائق وذكرت أسماء عدد من المسؤولين، رفضت النيابة العامة الاستماع إليهم واختار القضاء أن يسير في الطريق السهل وهو اقبار كل المحاولات الرامية للكشف عن الحقائق، هكذا إذا كانت هي رمزيات عدة جمعها تاريخ المسيرة المتزامن مع ذكرى مولد طفلة سيظل تاريخ ميلادها مرتبطا بإصرار القضاء على إقبار الحقيقة والتعاطي بمنطق التعليمات وعدم الجرأة على مساءلة الماضي، فهل يتحلى المسؤولون بالشجاعة الكافية للكشف عن الحقائق الكاملة من أجل طي ملفات الماضي قبل أن تكبر ألين؟.
وفي خطوة لا تخلو من دلالة تم إسناد مهمة القاء الكلمة الختامية للسيد عبد الرزاق بوغنبور رئيس العصبة المغربية لحقوق الإنسان المنتخب مؤخرا، وهو ما اعتبر على أنه إشارة للتداول على القيادة والكلمة وتحول الأمر إلى شأن حقوقي وطني لا يرتبط بمطالب فئوية –المطالب الاجتماعية للضحايا- ستتم تسويتها، بقدر ما يتعلق بتصور عام لتنزيل ضمانات عدم التكرار والحد من الإفلات من العقاب واستراتيجية للوقاية من التعذيب والكشف عن الحقيقة الكاملة؛ تلتقي فيه إرادة كل النزهاء والشرفاء على اختلاف الرؤى والتصورات ذات المرجعية الكونية لحقوق الإنسان التي تشكل رافدا لكل مدافع عن الإنسان في زمن صناعة التمايزات والاختلافات عوض البحث عن المشترك الإنساني.
وصفوة القول، أنه إذا كانت هذه المسيرة قد تميزت بتنظيم محكم وشعارات مركزة تنزل من العام إلى الخاص ومن الوطني إلى الفئوي، وبكونها تعكس مطلبا حقوقيا كان وسيبقى إحدى الركائز الاساسية لأي تسوية حقيقية ومتوافق عليها لملفات سنوات الرصاص، إلا أن هذا لا يمنع من التساؤل عن مدى جدية الدولة في تنفيذ التزاماتها الوطنية والدولية والانتصار لدمقرطة المؤسسات وللمصالحة مع الماضي والقطع مع كل المحاولات التي تحاول مأسسة النسيان والتطبيع مع التعذيب وضروب المعاملات القاسية والمرور على صفحة مهمة من تاريخ المغرب دون مساءلة للجناة ودون إقرار ضمانات عدم التكرار التي تجنب الأجيال اللاحقة مآسي الماضي.
وفي نفس الوقت، ألا يجب التساؤل حول قدرة المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والانصاف بشكل خاص-باعتباره إطارا يضم ضحايا الماضي- على تطوير نفسه والخروج من دور الوسيط الاجتماعي للضحايا إلى الاشتغال على ضمانات عدم التكرار والانفتاح على مختلف الشركاء في الشأن الحقوقي في البلاد وتفعيل وتنزيل مقتضيات توصيات هيئة الانصاف والمصالحة لتحصين ما تم اكتسابه بدماء الشهداء وآلام المعذبين والسير قدما في مسار طي ملف المطالب الخاصة والشخصية دون تنكر لإلزامية النضال الجماعي وتجاوز الذاتية والانانية والحسابات الضيقة والتافهة والصراعات الهامشية من أجل التركيز على مطلب المساءلة ومطلب عدم التكرار وخروج هذا الملف من النطاق الضيق المقتصر على الضحايا ليصبح شأنا وطنيا.
تساؤلات عدة، يزيد من مشروعيتها وحدتها وقلقها غياب الشباب –بما يحمله من رمزية للاستمرارية والخلف- عن مسيرة الرباط وتركيز ضحايا الماضي على مشاكلهم الخاصة بشكل شبه كلي ليطرح أكثر من تساؤل حول مستقبل النضال الحقوقي في زمن التحديات والرهانات الكبرى.