الأحد 19 مايو 2024
فن وثقافة

عبد الإله رابحي يقرأ تجربة بلعطار الزجلية

 
 
عبد الإله رابحي  يقرأ تجربة بلعطار الزجلية

بعد افتتاح الدورة السادسة لملتقى الإبداع الذي تنظمه جمعية رحاب باليوسفية يومي 11 و 12 دجنبر 2015 كان للجمهور اليوسفي وعشاق الزجل موعد جميل مع قراءة بعض قصائد الزجال الشامخ إدريس بلعطار وحيث أن تجربة الرجل تتميز بالتفرد وتعتبر مدرسة حمرية قائمة الذات فقد تقدم الدكتور الباحث الأستاذ عبد الإله رابحي بقراءة نقدية في تجربة بلعطار الزجلية " أنفاس بريس " تابعت اليوم الأول من الدورة السادسة ونظرا لأهمية القراءة نقدمها لعشاق الصفحة الثقافية للجريدة .

الذات / المكان / الأشباه .....قراءة في تجربة بلعطار الزجلية

ولأن الرجل ولادة وطبعا من منطقة " أولاد أحمر " بجغرافيتها وتاريخها الموغلين في القدم ولأن انتماءه ونسبه كان للمدن السفلى الميسورة بتربتها المعوزة بذويها ، الميسورة بريعها المعصورة بأهلها ولكنها المتخمة بحب الوطن المشبعة بروح الهوية المعطرة برائحة العرق والتراب المرسومة بأوشام التجاعيد وتشقق الأقدام ولأن سبيل السلالة يحمل إصرار الافتخار بالذات حتى في نضوبها وترديد نشيد الجراح في الثنايا والصدح بالألم الموروث ذلك الذي لا يفصل بين تاريخ المعاناة وحاضرها والذي أضيا لا يرى أفقا لنشدان ما ، ولا خيطا أبيضا من أسود ولأن الوفاء شيمة الجد الأول القادم من تخوم الشرق البعيدة مهوى الأغلال تلك التي سمتها " عيوط أم هاني " في لحظة من لحظات تعبيرها البراق ورغبتها الملحة في الحرية والانعتاق سمتها " تحرير اليد اليسرى " كي تستجيب لمكنون الطفل الذي كانه إدريس بلعطار ..ألأن اليد اليمنى لا تستحق القصيدة أم لأن اليد اليسرى اختارت العسر ضدا على كل أشكال الاسر ألم يصدح الطفل في صاحب القصيدة حين قال :

كالها موال / بمقام هبال / على حلمة مكسحة / سكنات البال .

ولأن القصيدة كانت دوما صدى الجراح القديمة انسابتشلالا يوزع ما تبقى من أمان كانت مسوغا للحياة وتأكيدا للاستمرار في مكابدة أشواك الطريق وجزر الرفيق وسؤال المعيش يزداد غورا كلما حاولت روح الابداع الشعبي الكشف عن تنوءاته فيعيد لنا إدريس بلعطار ما جددت فيه القصيدة الأندلسية لمنطق النكبة زمن " بني الأحمر " في إطار تورثها على الصدى المشرقي من رثاء المدن وأشعار الاستغاثة حين يقول :

الشماعية المنسية / يا قصيبة سايبة مسبية / يا روضة حية منسية / ليا وليك عشور الليل سدر / شطابة وقاع بحر / تخاف يضيع نيشانو .

لهذا ولغيره مما تحبل به الذات المكلومة كانت القصيدة البلعطارية بلون رمادي أغبر وب " سالف لعيد " الأشعت يقول :

يمكن من الليل مع النهار تكاد / واللون الرمادي عاد / لون البكا / ولون لعباد / لون الغلب / ولون النكسات .

بقدر ما تنجلي كشفا مساء بقدر ما تزداد حلكة ويزيدها ظلاما صوته المبحوح إيقاعا شجيا للنفس المكتوم ، لم تكن غاية الزجال تقديرا أن يكتب القصيدة البنية فقط بل أن يكتب أزجالا تستمد منابعها وأصولها من أشباه له مضوا مسكوت عنهم في تاريخنا سكنوا خاطره فقال عنهم :

شهادتي ليكم وشهادتي تلكاني / للروح عمر ثاني / وكاس بيه نسحى وبيه نسكر / هاجت فايضة بيه لمعاني .

هي الأبعاد الثلاثة ، الذات والمكان والأشباه التي تنتشر أفقيا داخل تجربة بلعطار الزجلية بين الخط الطبيعي والخط الوجداني وهي ما يخلق آخر المطاف هذا النفس الروحاني للقصيدة أوما أسماه بحق " فتوح الرحبة " :

ملوكك هاذي / شحال هي معنادة / وشحال حالها حامي / يا لكافرة وشحال هواس .

وهو ما يشكل الربط المحكم بين الطبيعي والاحساس بهذا الطبيعي والذي يجعل اللفظة داخل القصيدة تحصن ذاتها ولا تقبل مرادفتها ولا تمنح ذاتها بسرعة للتأويل وكأنني بها كصاحبها تخشى الميختزنيبا ، فالاستعارة لديه مأخوذة من واقعه الطبيعي في أرضه السفلى لأنه ببساطة يعيش الأشياء بأسمائها الأولى ويمنحها فرصة أن تلهج بلغتها الطبيعية والتي سميناها بلغة أخرى " العامية " وكأن هناك لغة " الخاصية " ورتبناها نحن المهووسون بالترتيب وقلنا لها " أنت لست لغة التمدن أنت لست لغة الحضارة أنت لغة سفلى " فكانت كذلك لغة سفلى لأرض سفلى لكائن أسفل يحتفي بعلاقته الطيبة بالأشياء فيقول :

الدي دندان / حلو كطران / كالزعتر يحرار / وفالشهدة يحلى دكانو .

يغزل اللغة من نسيج معيشه فيمنحها بيئتها الطبيعية حتى تصبح القصيدة الامتداد الطبيعي لما هو خارجي إذ لا وجود لانزياح إلا لما هو منزاح أصلا ، يصوغه الزجال " عيوطا " كان ل " أم هاني " فضل تحريرها من عقالها فك أسرها ليكون للجسد الحق في التعبير دون زيف عن صدق الكلمة الموزونة :

عطار فدروب الكلام / أنا جلت وتساريت / والكلمة عطرية / بها برحت وناديت .

تتزود القصيدة من خيمياء السوق السفلي لتبطل مفعول الأفعال الدنيئة للقوى الشريرة فتتسلح بالملح ودق الهاون ورائحة البخور :

جاب الله / لكاتمهيريز النفقة / عاد سلا من دكان / ولكاتني مازال /  نسقي فعويدات الريحان .

فيتحول بلعطار إلى عطار يحاول إصرارا إصلاح ما أفسده الدهر عل القصيدة تتحول إلى فعل إخصاب يحارب العقم ويسرع وثيرة الإنجاب :

خزامت لحروف ف شوارية / من عرصة لحلام مجنية / حظيتها من لغدر / ومن كلوب " خزيت " .

من كل ما تقدم نخلص إلى ثلاثة خصائص تطبع القصيدة البلعطارية وتتمحور حول خاصية الامتداد الطبيعي للقصيدة وكأن القارئ يعلم بالبداية المسكوت عنها في القصيدة وكأني بالزجال ينطلق من نقط حذف تثير وعي السامع إذ مقدمة القصيدة ملتقى اللاوعي الجمعي ، لا تنطلق من الصفر لتؤسس ذاتية الشاعر كما هو الحال في قصيدة " الفصيح " : (....) جاب الله / والله جا من جهة لحروف / فقهت قبل ما يطيح / باطل الشوف ..... بالإضافة إلى خاصية التناسل الصوري حيث ولادة الصورة اللاحقة من جوف الصورة السابقة فتتدرج الصور متلاحقة ومشكلة للاستعارة المركبة تبني بها التفاصيل الصغيرة تلك التي عجز عن رصدها قصيدة " الفصيح " .....راه الكلمة بنت مكاز / المكازرعاتو حلمة / الحلمة خطاها منكاز / المنكازعودو من ما / الما وادو سكوتي ... علاوة على الخاصية الثالثة وهي غياب التأويل المحلي لأن الزجال نسج القصيدة بشكل يستعصي معه اختراقها تأويلا حيث لا يترك أي منفذ فارغ يخول النفاذ لعمق القصيدة مما يمنعها عن المعنى الواحد والمفضوح ويفتحها في الآن نفسه على التعدد الذي يحبل به الواقع ويدرأ عنها المعنى الأحادي الذي تملكه الذاتية المفرطة لقصيدة الفصيح .

بكل هذه الخصائص مجتمعة تحتفي قصيدة بلعطار بالأسفل وقيمه بجوعه وعفته :

اسمح ف المزروعة / إلا الخاطر مفكوعة / وقطر بالريق وتعشا بيه / يا راسي / إلا راسك مرفوعة.