ورزازات مدينة السينما والإنتاجات السينمائية الشهيرة، بدءا من الأفلام الكولونيالية الفرنسية الأولى لسنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وبعدها الأفلام العالمية العديدة المتعددة لسنوات الستينات والسبعينات والثمانينات، بدءا من "لورونس العرب" و"اوديب ملكا" و"الرجل الذي أراد أن يصبح ملكا" و"الإغواء الأخير للسيد المسيح"، مرورا بالأفلام المصورة بداية الألفية الثالثة وما تلاها من أعمال صورت مؤخرا، كأفلام ريدلي سكوت وأوليفر ستون ووارنر هيرتزوغ وبيتر وير.. والبقية المتميزة من مخرجي الأفلام العالمية الهامة، بنجومها وميزانياتها الضخمة، ميزانيات صرفت نسبة هامة منها على أرض المغرب، استفادت منها أساسا، الساكنة المشتغلة بحقل الفن السابع، تقنيون وممثلون وكومبارس إلى جانب أصحاب الخدمات المختلفة خاصة الفنادق والمطاعم و المقاهي ..
ورزازات المشهورة "باستوديوهاتها" السينمائية المحترمة وفضاءاتها المازجة بين الكثبان الرملية والواحات والقصبات والوديان والجبال المكسوة بالثلوج، تقريبا طيلة السنة، تعيش اليوم وضعا يثير الكثير من الخوف والشفقة، وينبئ بمستقبل غامض للمدينة وساكنتها المعتمدة في عيشها على النشاط السينمائي.. وضع يدفع المهتم الغيور لوضع الأسئلة، أسئلة حول واقع ومستقبل هوليود شمال إفريقيا والعالم العربي، الهوليود الإفريقية العربية، التي طالما تغنى بها المغاربة، ومعهم الكثير من الأصدقاء والأحباب، وقدموها كعنوان لنجاحات فنية وسياحية لبلد راهن ويراهن على الفن والسينما لمحاربة التطرف والغلو في الدين والحياة ..
مناسبة القول والبكاء بين "أطلال" مدينة أضحت منذورة للعواصف الهوجاء وللخراب السينمائي القادم (إن لم يتم عاجلا تدارك الأمر)، هي الزيارة السينمائية التي برمجتها إدارة مهرجان مراكش الدولي للسينما، لمجموعة من الصحفيين والإطارات السينمائية العالمية، ضيوف المهرجان، يتقدمهم الوفد الكندي (بنجومه ومبدعيه ومنتجيه ) المحتفى به خلال هذه الدورة (الدورة 15) .
زيارة عرت الواقع المرير وجعلت الزائرين يكتشفون عوالم سوريالية مفارقة للواقع والمنطق، ويتحسرون (منهم من تنذر) على ما آلت إليه الأوضاع بمدينة كانت إلى زمن قريب عنوانا للنجاح المغربي ومدعاة للافتخار بين الشعوب العالمية السينمائية .
دعوني أسرد لكم الحكاية، حكاية الرحلة التي أريد لها أن تكون إشهارية للمدينة وفضاءاتها السينمائية، فتحولت في ساعات قليلة، إلى رحلة دعائية ممسوخة كاشفة لقبح وقتنا السينمائي والسياحي .
أقلعت الطائرة من مطار المنارة بمراكش صباح يوم الاثنين 7 دجنبر 2015، في أجواء تنظيمية وتفتيشية جد عادية، بمعنى خالية من أية عراقيل أو ممارسات بوليسية مبالغ فيها، لتحط طائرة الخطوط الجوية الملكية (المكتراة لهذه المناسبة بمبلغ ست مائة ألف درهم) بمطار ورزازات.. كان كل شيء يمر في سلاسة ويبشر بخير عميم خادع، وفد رفيع في الانتظار مع طاولات محلاة بالمشروبات والحلويات، موسيقى وأهازيج محلية تراثية أصيلة، حركت الأجساد المترهلة لبعض صناع السينما مغاربة وأجانب، وكلمات ترحيبية موزعة هنا وهناك، ليتحرك الجمع على متن سيارات وحافلات باتجاه قصبة أيت بنحدو، قصبة الأساطير والخلفية التاريخية المغربية الموغلة في الأصالة.. قصبة شهدت عبر تاريخها المعاصر، تصوير عشرات الأفلام العالمية الشهيرة كـ "كلادياتور" و"شاي في الصحراء" و"حريم" و"علي بابا والأربعون حرامي" و"استريكس أوبيليكس مهمة كليوباترا" .. ، السيارات الحاملة للضيوف (120 ضيف)، بدأت تتراقص بمجرد الوصول للطرق الرابطة بين واد المالح والقصبة، رقص وتراقص جاء على إيقاع طريق شبه معبدة، طريق لم تعد صالحة للاستعمال منذ سنوات، طريق حولت الكيلوميترات القليلة إلى مسافة جد طويلة، هدت العزائم وقدمت صورة أولى غير مرضية عن مدينة النور والخلق والسينما وقبل ذلك عن قصبة تنتج الملايين سنويا ولا تستفيد منها ولو بدريهمات قليلة ..
بعد الوصول والزيارة المتسرعة، كان لابد من العودة من نفس الطريق/ الجحيم، نحو ديكور مزروع في الخلاء، ديكور مدينة القدس الذي تم توظيفه في فيلم "مملكة الجنة" لريدلي سكوت، زيارة خففت بعض الشيء من غلواء الغضب الذي كانت ملامحه قد بدت تظهر على وجوه الزوار، بالنظر لأهمية الموقع وجمالية هندسته الفنية المصنوعة بعناية فائقة. لكن الغضب سيعود، وبقوة هذه المرة، بمجرد زيارة استوديوهات "أطلس" ومحاولة إقناع الحضور بأهميتها وضخامتها وصيتها العالمية.. إقناع اعتمد على الكلام المتطاير في الهواء والتشدق بالأسماء التي مرت من هنا والإنجازات التي تحققت والملصقات المفبركة لأفلام غير موجودة (ملصقات جعلت منتج كندي يستدير نحو زملائه قائلا: إنه النصب السينمائي بامتياز) والديكورات المهدمة البئيسة لتماثيل فرعونية واقفة رغم أنف الريح والثقوب والتشققات الممعنة في تعذيبها وتهديدها بالسقوط في كل لحظة، وتمثال لبوذا في عزلة مظلمة قاتلة لم يتم ترميمه منذ أن تركه مارتن سكورسيزي هناك في منفاه القاتل ..
واقع جعلنا نحن المغاربة، الشهود على هول الصدمة، نحس بحمرة الخجل تعلو محيانا لكون البعض مازال يصر على التبجح وترديد، أن للمغرب والمغاربة مدينة سينمائية، اسمها ورزازات، مدينة باستوديوهات محترمة و إنجازات فيلمية معتبرة وتاريخ سينمائي طويل مشرف، إحساس تفنن في تعميقه أحد الضيوف بقوله لنا: "شكرا على إركابنا الطائرة "..
تناولنا غذاءنا الباذخ في أحد فنادق المدينة (فندق خمس نجوم) لنعود نحو المطار نجر أذيال الخيبة والهزيمة.. خيبة وهزيمة زاد من حدتهما وقوتهما عدم وجود من يستقبلنا ويسهل خروجنا.. شباك واحد وفتاة غضة مغلوب على أمرها، تتصارع مع الآلة التي أمامها لتسجيل الأسماء وتسليم التذاكر.. تذاكر لم يتسلمها كل واحد منا، إلا بعد لأي وانتظار في صف طويل وإجراءات بوليسية قاسية.. إجراءات زادت الوضع مأساة وهم يطلبون منا نزع أحذيتنا والاسترخاء كي يجس الشرطي المتصبب عرقا أطرافنا ويفتش ملابسنا.. كم ضحك البعض منا وهو يشاهد المخرج الكبير إطوم أكويان، رئيس الوفد الكندي (تناول السعفة الذهبية في حفل ضخم على شرف تكريم السينما الكندية) وهو يتقدم حافي القدمين، حاملا حذاءه الكالح من كثرة الغبار الذي جللته المسالك الورزازية بالغبار، والشرطي المتصبب عرقا، يمعن في إدخال يديه بين تفاصيل جسده الضئيل، ومخرجنا المتوج بكان وبرلين، مستسلم لحظه التعس وقدره الذي قاده لهذا الجحيم ..
ركبنا الطائرة (غابت الخدمات التي تلقيناها من المضيفات في رحلة الذهاب) وعدنا لعالمنا السينمائي المراكشي، لعل بعضنا يظفر بمشاهدة فيلم من الأفلام العالمية، هناك بقاعة المؤتمرات، تنسيه مرارة ما تجرع من عذاب وتضمد جراحه الدامية من هول ما شاهده في مدينة ورزازات الغالية. المدينة السينمائية التي جئناها راغبين وخرجنا منها هاربين متباكين، بل وطارحين السؤال الغصة: هل هي بداية انتهاء مفخرة المغرب، أسطورة مدينة السينما و الفضاءات والأستوديوهات العالمية المثيرة.