الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد انفلوس: سيدي إفني تفكك ذاكرتها

محمد انفلوس: سيدي إفني تفكك ذاكرتها

لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون..

ولا يستوي كذلك الذين يتعلمون مع الذين لا يتعلمون. والتاريخ معلم عظيم..

كل شيء يحدث حولنا الآن حدث قبل ذلك، وكل شيء حدث قبل ذلك يتكرر الآن، لا أحد يتعلم من تجارب الذين خلوا من قبله، لا أحد يسير في الأرض فينظر كيف كانت عاقبة الذين خلوا من قبله..

خذ عندك مثلا ثورة أيت باعمران 23 نونبر، كانت ثورة عظيمة، لكنها لم تؤت كل ثمارها بسبب اختلالات الأولويات وغياب الرؤية.. ما الذي حدث؟ ثار المقاومون على المستعمر الإسباني وطردوه من القرى والجبال ليستوطن بمدينة سيدي افني ويقيم الجمارك على مداخلها ويزودها بمطار وتليفيريك ليؤمن استقلالها البحري والجوي.. سلم المقاومون السلاح للمخزن، ودخلوا اللعبة الدبلوماسية التي صاغتها معاهدة المخزن والإسبان، فكافأتهم الدولة بمعاشات زهيدة وأوسمة نحاسية صدئة وذكرى يتيمة بدون عطلة مدرسية. وعلى عكس الدول التي حولت أبطالا من كرتون كسبيدرمان وسوبرمان وبات مان إلى أبطال حقيقيين، حول المخزن أبطالنا الحقيقيين إلى أبطال من كرتون، حتى أننا ما زلنا نفتقد مؤسسات رسمية بأسماء شهدائنا الذين لم يعد أبناؤنا يعرفونهم ولن يعرفونهم. لأن الكتب المدرسية الجديدة لم تعد تتحدث عن 23 نونبر، وحتى الإعلام الرسمي لم يعد يذكر الحدث في نشراته الإخبارية الرديئة.

بعدها ستتكرر التجربة في سياق آخر، وفي زمن آخر، ربما  بنفس شحنة الغضب ونفس الزخم، وللأسف بنفس المآلات والنتائج.. أتحدث هنا عن السكرتارية المحلية، حيث آمن الناس بعدالة المطالب وشرعية النضال، لكن بعض قيادييها دخلوا دهاليز السلطة وتركوا الشارع للمخزن ليتفرق دم السكرتارية بين خلافات التدبير اليومي المتحكم بسلطة الوصاية في تفاصيله وبين واقع لا يرتفع، حتى أننا فوتنا حراك عشرين فبراير ونحن نتأمل بعضنا البعض في صمت وأسف. وتحول أبطال السكرتارية إلى ناس عاديين نسينا تضحياتهم وبسالتهم والأيام التي قضوها في السجن بسبب مطالبنا العادلة والمؤجلة إلى زمن آخر..

خذ عندك مثالا آخر، فيضانات 85 التي جرفت الأخضر واليابس، والتي جرفت في طريقها أيضا حديقة الحيوانات والملعب البلدي أحد أبرز معالم النوستالجيا الإفناوية.. ومنذ ذلك التاريخ لم يحظ أطفالنا برؤية الغزال والقرود والخنازير إلا على شاشات التلفاز.. الفيضان جرف كل شيء، وترك لنا قنطرة إسبانيا واقفة راسخة شاهدة على العصر..

ثم جاءت فيضانات 2015 بشكل غير متوقع، وجرفت كل شيء، وتركت هي الأخرى القنطرة الإسبانية  مرة أخرى واقفة راسخة شاهدة على العصر .

لقد وضعتنا هذه الفيضانات أمام الحقيقة التي نريد إخفاءها عن بعضنا البعض.. لقد تبدلنا ونفذت شحنة الغضب بداخلنا وأصبحنا نثق بأصغر مسؤول يماطلنا، رغم أن ابتسامته الصفراء تفضح كذبه وبهتانه. مسؤولون حكوميون كثيرون تعاقبوا علينا وكلهم كما تقول ماجدة الرومي "لا شيء معي إلا كلمات"..

اعتقل في الثمانينات رئيس المجلس البلدي محمد شوقي وتكمشنا كأن الامر لا يعنينا، بعدها بسنوات تكرر الامر واعتقل رئيس المجلس البلدي محمد الوحداني وانكمشنا مرة أخرى، ونحن الذين تضامننا مع اعتقال رئيس بلدية القدس ذات مساء، حتى أننا خجلنا من أنفسنا ونحن نعبر بصوت خافت عن حزننا وهلعنا من القادم الأسوء.

بقي المسجد الكبير جثة مفتوحة الأشلاء لأزيد من ثلاث سنوات دون أن يتحرك أحد، وتبعه مسجد المغاربة، ولم نعد نقوى على مغالبة هذا الضعف الأخرق الذي يكبلنا..

تهشم حائط شارع الحرية أمام أعيننا، وبقي عنوانا رسميا وجرحا مفتوحا وتلخيصا دالا على واقعنا المكبل والمرهون بأحلام التنمية..

وتهشم حائط الميناء وأعلنت الشركة المتغولة إفلاسها وبيعها لأجزاء من المرسى، دون أن يتحرك أحد أو تثور ثائرة من أغلق الميناء برمته من أجل سردينة واحدة لكل إفناوي.

وحتى الفرح لم نعد نقوى عليه.. فقد فاز أولادنا بالبطولة الوطنية لكرة السلة ولم نستطع الخروج لاستقبالهم، ونحن الذين كنا نغتنم كل صغيرة وكبيرة للتعبير عن ذاتنا.. وفيما استقبلهم عامل الإقليم خارج مكتبه على درج عمالته، تركناهم نحن لمصيرهم الرياضي المجهول دون أن نقول لهم شكرا..

في الأدب العالمي رواية شهيرة اسمها "دون كيشوت"، كتبها سيرفانتس. بطل الرواية رجل ولد بعد انقضاء عصر الفرسان، لكنه عكف على قراءة الكتب القديمة التي تصف بطولات الفرسان، وظل يحلم بأن يكون فارسا حتى تحول الحلم في لحظة ما إلى وهم تملكه، فقرر أن يعيش حياة الفارس بعد أن انقضى عصر الفروسية.. عندئذ يرتدى درعا قديمة ويمسك برمح مهترئ ويتورط في معارك وهمية.. فإذا رأى غبارا تثيره مجموعة من الأغنام يتخيل أنهم جنود الأعداء ويندفع فورا إلى قتلهم، فيوسعه رعاة الأغنام قذفا بالحجارة حتى تنكسر ضروسه.. مرة أخرى يرى دون كيشوت لأول مرة طاحونة هواء فيتخيل أنها شيطان له أذرع عملاقة، ويندفع ليضرب برمحه طاحونة الهواء التي تدور وتقلبه فيسقط على الأرض وقد تحطمت عظامه... تتكرر هذه الحوادث المؤلمة لـ «دون كيشوت» لأنه يعيش في وهمه ويعجز عن رؤية الواقع حتى يفيق في النهاية ويعترف بالحقيقة. عندئذ يدرك استحالة أن يكون فارسا لأن عصر الفرسان مضى بلا رجعة، ويعترف بأن أشباح الجهل السوداء -على حد تعبيره- قد تملكته من كثرة قراءة كتب عفا عليها الزمن.

الدرس المستفاد من هذه الرواية العظيمة أن ضغط الواقع، وليس قوة المنطق، هو ما جعل دون كيشوت يفيق من أوهامه.