يكتسي إتقان اللغات الأجنبية أهمية خاصة في التنمية الذاتية لأفراد و المجتمعات.فعن طريق اللغات نستطيع تشفير خصائص الثقافات الأخرى ومعرفة كنهها.فقديما شدد الحكماء على تعلم لغات الأقوام الأخرى للنجاة من مكرهم. كما أن اللغات الأجنبية تساعد على نشر الثقافة المحلية ومخاطبة الآخر و تغيير نظرته للعالم و الأشياء. فاللغات أدوات أساسية في تفعيل حوار الحضارات و الثقافات و تقريب الشعوب من بعضها البعض و ما أحوجنا اليوم لذلك في عز سوء الفهم الناتج عن ضعف التواصل بين الشعوب.وعندما سئل زعيم جنوب إفريقيا نلسن مانديلا عن الحاجة إلى إتقان لغة المخاطب قال:"عندما تتحدث مع رجل بلغة يفهمها فإنها تسري في عقله و عندما تتحدث إليه بلغته فإنها تسري في قلبه."وهذا يوضح بجلاء التأثير الوجداني للغة الأم على المخاطب.الأمر الذي يحث على تعلم اللغات الأجنبية و استثمارها علميا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا وأمنيا ودبلوماسيا وإعلاميا.
ما يلاحظ في السنين الأخيرة في المغرب أن إتقان اللغات الأجنبية يبقى رهينا بالوسط الاجتماعي و الخلفية الدراسية وهناك حالات ناجحة لتلاميذ استطاعوا ضبط اللغات الأجنبية.وبالمقابل توجد فئة عريضة من التلاميذ لا تستطيع حتى كتابة نص صحيح باللغة " الأم" أو الدستورية وما بالك التعبير بالفرنسية أو الإنجليزية. والأمر يتوقف على جودة التدريس بتلك المؤسسات. وأحيانا لا تكاد تجد تلميذا من بين عدد غفير من التلاميذ الذين يدرسون بالمرحلة الثانوية يحسن التعبير باللغة الفرنسية كتابيا وشفويا. ومرد ذلك إلى المقاربة البيداغوجية المتبعة التي لا تعطي للتلميذ فرصة لاستدراك ما ضاع من مهارات لغوية.فالتعليم عملية اجتماعية موجهة للجميع بدون استثناء تتعارض كليا مع مبدأ الانتقائية الذي يعتمده بعض الأساتذة في أقسام اللغات نظرا لتفاوت المستويات و إجبارية المقرر الدراسي فلا يعقل أن يدرس تلميذ لا يفهم الفرنسية الأدب الفرنسي في المرحلة الثانوية.و قد يقضي بعض التلاميذ مجمل الفترة الدراسية دون اكتساب مهارات جديدة لأن المقررات لا تتماشى مع متطلباتهم.إن المقاربة البيداغوجية المتبعة حاليا أبانت عن ضعفها لسنوات وكأستاذ سابق للغة الإنجليزية أكاد أجزم أن الوقت قد حان ليعاد النظر و الاعتبار لتدريس اللغات الأجنبية في المغرب وذلك بتبني مقاربة تربوية جديدة تتمحور حول مستوى الإتقان الفردي للغة الأجنبية وذلك بفصل تدريس اللغات الأجنبية عن باقي المواد.
تنبني المقاربة الجديدة المقترحة، كما ذكر سابقا،على فصل تدريس اللغات الأجنبية عن المستويات الدراسية في المرحليتين الإعدادية و الثانوية لفتح المجال أمام التلاميذ لاستدراك ما فاتهم وتدعيم حصيلتهم اللغوية.وقبل البدء في ذلك ينبغي تحديد سقف تعليم كل لغة أجنبية و الذي غالبا ما يكون الحصول على شهادة لإتقان شبيهة بتلك التي تسلمها المراكز الثقافية الأجنبية بالمغرب؛ مما يدعو وزارة التربية الوطنية إلى إعادة النظر في البرمجة اللغوية.فالأمر يحتاج إلى تحديد المستويات اللغوية:مبتدئين و متوسطين و متقدمين و متخصصين و فتح المجال أمام التلاميذ لاجتهاد و الاجتياز الاختبارات و الانتقال من مستوى لغوي إلى مستوى لغوي أخر دون الارتباط بالقسم الدراسي.فمثلا قد تجد تلميذا في المرحلة الإعدادية يتقن اللغة الإنجليزية اتقانا تاما فهذا التلميذ يجب أن يدرس في مستوى المتقدمين أو المتخصصين بناء على النتائج المحصلة في اختبارات الولوج اللغوية السنوية التي يجتازها بداية كل سنة ودورة دون الحاجة إلى الدراسة مع أقرانه في قسم المبتدئين أو المتوسطين الذي يدرس فيه معهم باقي المواد الدراسية.
وعندما يتمكن هذا التلميذ من كل المستويات اللغوية المبرمجة، و التي يجب أن تعتمد على معايرة دولية شبيهة بتلك المتبعة من لدن المراكز الثقافية الأجنبية، فإنه سيمنح شهادة لغوية يكون معترف بها دوليا و لا حاجة له لدراسة اللغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية و عوض ذلك التسجيل لدراسة لغة أجنبية أخرى من اختياره حسب البرمجة اللغوية. وحسب نظرية الذكاءات المتعددة لواضعها هوارد جارندر(1993)فإن بعض الناس يتميزون بالذكاء اللغوي ومن تم لا ينبغي حصر إدراك هؤلاء، بل إعطائهم فرص أكثر لصقل مواهبهم.أما التلميذ الذي لم يتمكن من تعلم اللغة الأجنبية في المرحلة الابتدائية لاعتبارات معينة فإنه يجد أمامه فرصة استدراك ما فاته من دروس وذلك بالتسجيل في القسم الذي يتماشى مع قدراته وهذا ما سيحفز التلاميذ على العمل الجاد واستثمار وقت الفراغ في تعلم أكثر من اللغة حية.ولتحقيق هذه الغاية يجب العمل على تحديد المستويات اللغوية و الاختبارات المصاحبة حسب المعايير الدولية المتتبعة في تدريس اللغات وتأهيل الموارد البشرية التي ستصهر على هذه العملية وكذلك إدخال لغات جديدة إلى المدارس المغربية كاللغة الصينية و الروسية تماشيا مع روح الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى السادسة عشر لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين.