يعتبر تخليق الحياة السياسية في بلادنا اليوم قضية ملحة ومستعجلة، في ظلّ سياق تتزايد فيه مظاهر فقدان الثقة في المؤسسات، وتتعمق فيه مشاعر السخط والاستياء من الفساد وسوء التدبير، بل وتتكاثر فيه أيضا صور"الفضائح السياسية" وتضارب المصالح. لذلك فبلادنا في حاجة قصوى لاستعادة وبناء الثقة بين المؤسسات والمسؤولين العمومين من جهة والمواطنين من جهة ثانية، من خلال إرساء أسس جديدة لممارسة السلطة تقوم على الأخلاق والمسؤولية والشفافية.
ولا بد من التأكيد في البداية على أننا نعني هنا بتخليق الحياة السياسية إعادة الاعتبار لقيمة الخدمة العمومية، ووضع المصلحة العامة في صلب الفعل السياسي، وضمان أن تُمارَس السلطة لخدمة الصالح العام لا لتحقيق المصالح الخاصة.
وتجدر الإشارة إلى أن تخليق الحياة السياسية في التجارب الديموقراطية يرتكز عموما على ثلاثة مبادئ رئيسية كبرى وهي: أولا، الشفافية والتي تعني جعل ممارسة السلطة واضحة أمام المواطنين، من خلال التصريح بالممتلكات والمصالح، والإفصاح عن تمويل الأحزاب والنقابات والحملات الانتخابية، وتتبع نفقات المال العام وكيفيات صرفها. ثم ثانيا المسؤولية، والتي تقتضي أن يكون كل من يتولى أي منصب عمومي خاضعاً للمحاسبة الحقيقية أمام المواطنين، وأمام المؤسسات الرقابية والقضائية. وأخيرا وليس آخرا النزاهة باعتبارها تمثل البعد الأخلاقي في الممارسة السياسية، إذ تتطلب من المسؤولين التحلي بالسلوك القويم والالتزام بمبادئ الأخلاق العامة والخدمة الصادقة للوطن. وكل هذه المبادئ مجتمعة ينصب هدفها الرئيسي في منع تضارب المصالح وحماية دولة القانون من انحرافات ممارسة السلطة.
وفي هذا السياق، نحيل على واحدة من التجارب التي نستنسخ منها العديد من الأشياء ألا وهي التجربة الفرنسية التي شهدت تحولاً دالا في مسار تخليق الحياة السياسية بعد سلسلة من القضايا التي هزّت الثقة العامة في السياسيين، وهو ما أفضى إلى إقرار قوانين الثقة في الحياة السياسية سنة 2017 و التي كان الهدف منها هو تعزيز الشفافية والنزاهة في الممارسة السياسية. وتعكس هذه التجربة ،رغم أعطابها، إرادة سياسية لتخليق الممارسة العامة عبر آليات مؤسساتية للرقابة والشفافية، وفي الوقت نفسه لترسيخ ثقافة السلوك الأخلاقي في تدبير الشأن العام.
و من خلال الاطلاع على تجارب دولية أخرى سنصل إلى خلاصة مفادها أن تخليق الحياة السياسية لا يتحقق فقط بتشديد القوانين، بل يتطلب نضجاً مجتمعياً وإرادة سياسية مستدامة. وتُعد الدول الإسكندنافية (السويد، النرويج، الدنمارك) نموذجاً رائداً في الشفافية والمساءلة. فالثقافة السياسية السائدة فيها تقوم على الثقة المتبادلة، والرقابة الاجتماعية الصارمة، والتصريح العلني عن المداخيل والممتلكات. وتُظهر هذه التجارب أن الأخلاق السياسية لا تُفرض بالقانون وحده، بل تُبنى عبر التربية والقيم المجتمعية وهذا هو الجوهر.
أما التجربة الكندية فقد تبنّت مقاربة وقائية من خلال المفوضية المعنية بتضارب المصالح والأخلاقيات، وقانون رائد في مجال الحق في الوصول إلى المعلومة. ويقوم هذا النموذج على التكوين الأخلاقي للمسؤولين العموميين وتشجيع الالتزام الطوعي بقواعد النزاهة قبل العقوبة.
وتبقى التجربة الأسيوية في كوريا الجنوبية الأكثر صرامة من خلال «قانون كيم يونغ ران» (2016)، الذي يفرض قيوداً صارمة على الهدايا والمنافع المقدمة للموظفين العموميين، ويعاقب المخالفين بعقوبات جنائية ثقيلة. وقد ساهم هذا القانون في الحدّ من ممارسات الفساد الإداري.
وفي بلادنا، وإن كان دستور 2011 قد نص على مبادئ أساسية في هذا المجال، من بينها ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضمان شفافية الإدارة، وتعزيز أخلاقيات المرفق العام، وإنشاء الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها كمؤسسة دستورية مستقلة، كما تم إطلاق مبادرات، من أجل مواءمة منظومة الحكامة الوطنية مع المعايير الدولية، من قبيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وتقوية دور المجلس الأعلى للحسابات وأجهزة التفتيش العمومي. وإصدار قوانين متعلقة بـالحق في الحصول على المعلومات، والتصريح بالممتلكات، والشفافية المالية. إلا أن هذا كله لم يرقى إلى المستوى المطلوب ولم ينجح في ترسيخ ثقافة سياسية قائمة على الأخلاق والمسؤولية والثقة بين الدولة والمجتمع، وهناك صعوبة حقيقية في تغيير العقليات السياسية والإدارية الراسخة، بل الأخطر هناك مقاومة بعض البُنى والمؤسسات لمتطلبات وقواعد الشفافية والمساءلة.
ولهذا يطرح السؤال هل نحن في حاجة اليوم، على غرار التجارب الديموقراطية، وأكثر من أي وقت مضى إلى قانون صارم وشامل لتخليق الحياة السياسية ؟.... قانون يكون جوهره المصالحة بين الأخلاق والسلطة، وتحويل العمل السياسي إلى ممارسة مسؤولة وشفافة تستند إلى الثقة والمصلحة العامة والمواطنة الفاعلة . قانون لا يجب أن يقتصر فقط على البعد القانوني الصرف، بل يجب أن يتأسس على رؤية أخلاقية للسلطة، وعلى إرادة حقيقية لإعادة بناء العقد الاجتماعي بشكل عادل ومنصف للجميع. وأن تقوم فلسفته على تحقيق التوازن بين الحرية السياسية والمسؤولية العمومية والنزاهة الأخلاقية. وأيضا من خلال آليات فعلية للشفافية ومكافحة الفساد والرقابة الديمقراطية الحقيقية.
وفي الأخير إذا كانت التجارب الدولية تُظهر أنه لا توجد دولة محصّنة تماماً ضد الانحرافات، إلا أن بناء مؤسسات قوية وثقافة مدنية ديموقراطية متقدمة وفعالة يُعدّان شرطين أساسيين لحماية الحياة السياسية من الفساد والانتهازية المدمرة للوطن والقاتلة للأمل والثقة في المستقبل، وسيعزز في المقابل المشاركة المواطِنة، وسيبني ثقافة مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمواطنين.