الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد المرابط: على هامش درس الأستاذ التوفيق: أبو العباس السبتي، ومشروع الدولة المغربية لابن تومرت

محمد المرابط: على هامش درس الأستاذ التوفيق: أبو العباس السبتي، ومشروع الدولة المغربية لابن تومرت

الطابع التنويري لدرس الأستاذ التوفيق الرمضاني: "أبو العباس السبتي ومذهبه في التضامن والتوحيد"،  حملنا على تقييمه بقوله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق". وهذا التقييم ينبع من ملاحظة عامة ،تقدر عاليا خدمة أصحاب العلوم الإنسانية في المغرب،للخصوصية الدينية والثقافية لبلادنا،والأستاذ التوفيق من أبرز هؤلاء الوجوه. في حين خدمت فيه نخبة القوى الأصولية المخططات الإلحاقية للمغرب، بدوائر الأصولية العالمية. وإلى اليوم مازال الطلبة يمتحنون في الجامعات المغربية، شرقا وغربا، تحت مسمى العقيدة، في عقيدة الإخوان والوهابية. وتتصدر نخبة الحزب الحاكم طليعة التمكين لهذا المخطط.

أن يعلم الرأي العام من خلال هذا الدرس، أن المغاربة أنجزوا قراءة اجتماعية للدين، عززت من أواصر التضامن والتماسك الاجتماعي، فهذا من ثمرات سياسة التنوير التي ينبغي أن تتواصل ضمن رؤية جامعة للسياسة الدينية. لكن ما لم ينتبه إليه الأستاذ التوفيق، هو أن يضع أبا العباس السبتي ضمن المشروع التومرتي، لبناء الدولة المغربية، مرجعيا على مستوى العقيدة الأشعرية، وإمارة المؤمنين، والتصوف، استكمالا لسابقة المذهب المالكي في البلاد. وفي تصريف هذا "الأمر العزيز"، إداريا على إبداع مفهوم "المخزن"، وفي التداول على الحكم، على "بيعة السر". وتبقى إمارة المؤمنين على عهد الموحدين، هي التي قطعت مع التبعية للمشرق، التي كرستها إمارة المسلمين على عهد المرابطين. وهذه الاستقلالية يرجع الفضل فيها إلى العقيدة الأشعرية، والتصوف المغربي، الذي سيجسد مع القطب ابن مشيش، تمام الذات المستقلة للمغرب.

إذا وقفنا عند "تدبر الموافقات التاريخية"، في غير مساق الأستاذ التوفيق، فقد تزامنت سنة وفاة المهدي بن تومرت، بميلاد أبي العباس السبتي. وتزامن قدومه لمراكش، واستقراره بكيليز مع زمن حصار خليفة المهدي، عبد المومن لها واتخاذه كيليز كمنطقة تجميع لمختلف القوات الشعبية، لـ "فتح" العاصمة، حيث "نزل بجبل بقربها يعرف بجبل جليز، وهو جبل صغير، بنى عليه مدينة استند إليها، وبنى فيها مسجدا وصومعة طويلة يشرف منها على مراكش. ولما أكمل المدينة بالبناء، ونزلت كل قبيلة بالموضع الذي حد لها، زحفوا بجمعهم لمراكش..".

وبقي في هذا الجبل إلى أن" طلع إليه أمير المؤمنين يعقوب المنصور رحمه الله تعالى، وعامة من في المدينة، من الشرفاء والفقهاء والصالحين، وجعلوا يتبركون به. وما زال أمير المؤمنين، إلى أن أنزله من الجبل، ودخل المدينة، وحبس عليه السلطان مدرسة العلم والتدريس، وزاوية للفقراء والذكر والعبادة، ودارا للسكنى.".

وكان مكرما ومحترما من طرف الموحدين، خلفاء ووزراء وحجابا. ويبدو أن انتقاله الطوعي من سبتة إلى مراكش لاستكمال العلم، وفي ظروف عدم الاستقرار، لم يكن إلا رغبة في نهل عقيدة الموحدين/الأشعرية، وتأطير التصوف السني بمسحة هذه العقيدة، على نحو صريح. ولم يكن توجهه في سنة حصار الموحدين لمراكش، إلا دعما لمجهودات فتح العاصمة. لذلك فدرس الأستاذ التوفيق، لم يأخذ مداه، بفعل اقتصاره على بعض المصادر التاريخية، وسقوطه في قراءة مفصولة السياق. ومن ذلك:

1. ما أورده الأستاذ التوفيق بالاستناد إلى ابن عربي من كون "أن السبتي وجهت له تهمة ما، وأراد السلطان أن يعدمه بموجبها، لكن الشهود قالوا إن المتهم رجل عدل رضي"، ليس دقيقا، إذ العكس ما تذكره مناقبه، ويزكيه علاقته بالموحدين: "اجتمعت جماعة من الفقهاء المنتقصين على الشيخ، رضي الله عنه، وعملوا فيه عقدا، وأشهدوا فيه أنه زنديق، وحملوه للسلطان. فلما رآه السلطان، بعث وراء القاضي ووراء هؤلاء الفقهاء الذين شهدوا في العقد. فقال للقاضي: ما تقول في هؤلاء الذين يشهدون في هذا العقد؟ فقال له: عندي عدول، ولا عندي ما نقول في شهادتهم.فبعث السلطان وراء سيدي أبي العباس رضي الله عنه، فامتثل الأمر وطلع إليه، (..) فلما دخل على السلطان، قام إليه كل جالس، وأوسعوا له في المجلس. فقال: ما حاجتك يا أمير المؤمنين؟ قال: ياسيدي، إن هؤلاء الفقهاء كتبوا فيك شيئا، وأردت أن يقرأ بحضرتك، فإن القاضي أجاز ما فيه. فقال له الشيخ: على بركة الله، الذي كتبه يقرأه. فقرأه على رؤوس الجميع، وإذا كل ما كان من قبيح رجع مليحا، وانقلب ما فيه من خطأ مثل الزنديق، رجع صديقا. ووجد فيه من كلام الخير ما لا يوصف، فدهش القاضي والشهداء، وبقي كل من كان هناك متعجبا. فقال الشيخ رضي الله عنه: إن هؤلاء ذكرونا بخير فجزاهم الله خيرا، ثم انصرف (..) فأذى السلطان الشهود، وعزلهم عن الشهادة، وتاب القاضي واستغفر الله تعالى". وهذا من بركة تصدقه وهو في طريقه إلى السلطان، بربع درهم، "لأن أمور الشيخ كلها، لا تدور إلا على الصدقة"، وهذا من نفحات شيخه أبي عبد الله الفخار. الغالب أن هذه النازلة، قد حصلت إما أيام يعقوب المنصور، لأن في هذا العهد كانت محنة الفيلسوف ابن رشد الحفيد، وإحراق كتب الفلسفة، لغلبة الظاهرية. وإما في عهد ولده محمد الناصر الذي "كان يذهب مذهب أبيه في الظاهرية". وهذه الغلبة هي التي حملت المأمون الموحدي لاحقا على الانقلاب على التومرتية، فانهارت الدولة.

2. قوله في مرجعيته الصوفية: "وقد نسبه بعض من راقبوا أحواله إلى الملامتية"، والحال أنه في "أخبار أبي العباس السبتي" في كتاب "التشوف" للزيات الذي حققه الأستاذ التوفيق، تحلية السبتي لنفسه بقوله: "أنا هو القطب". وكما مر بنا، فقد كانت له زاوية للفقراء، والذكر والعبادة ومدرسة للعلم و التدريس. صحيح أن الناس انقسموا فيه قسمين: "معتقد ومنتقد". لكن المنتقدين، لا يمكن فصلهم عن تنامي سيطرة الظاهرية. أما لم أجد له تفسيرا، هو أن يستحضره خارج بنية الولاية، بالرغم من أن الزيات ذكر استسقاءه بدعاء: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، فانفعلت السماء بجود الغيث.

3. قوله بعد ترسيم الفواصل بين التوحيد في علم الكلام والتوحيد في التصوف: "إن مذهب التوحيد عند السبتي لم يقف عند براهين المتكلمين،ولم يتناول أذواق المتصوفين، إذ ربطه بدليل عملي يتجلى في السلوك، ويتمثل في البذل والعطاء". فمقدمات هذه النتيجة غير دقيقة. فهو كلامي متمكن كابن تومرت، "لا يناظره أحد إلا أفحمه. وكان سريع الجواب.وكان القرآن،ومواقع الحجج على طرف لسانه عتيدة حاضرة، يأخذ بمجامع القلوب، ويسحر العامة والخاصة ببيانه. يأتيه من يأتيه للإنكار عليه،فما ينصرف إلا وقد سلم له وانقاد لقوله". لذلك فبناء المجتمع لدى السبتي، هو امتداد لبناء الدولة لدى ابن تومرت، بتلازم العقيدة والتصوف. من هنا يجب قراءة توحيد السبتي ضمن الأدبيات الأشعرية في ذلك الوقت، من قبيل "قطب العارفين" في العقائد والتصوف، لعبد الرحمان اللجائي، و"شعب الإيمان"، لعبد الجليل القصري..

لقد تكاملت في شخصية أبي العباس السبتي، المذهب المالكي، والتصوف، وقد أخذهما في سبتة، والتوحيد في مراكش، كما صاغه ابن تومرت، لإنجاز رؤية مقاصدية اجتماعية في قراءة الدين. وهذا النهج كان موضع محاربة من طرف الظاهرية، مثلما تحارب اليوم الوهابية، ثوابت البلاد المذهبية ومرجعية إمارة المؤمنين.

إن تدبر الموافقات التاريخية، لدى الأستاذ التوفيق في هذا الدرس، لم يتجاوز عتبة التأصيل للسياسة التضامنية لعاهل البلاد، في حين أن حالة السبتي، تتجاوز هذا الحد الإجرائي، إلى بنية وظيفية ثوابت البلاد، ومرجعيتها الناظمة، في سياق جدلية "الدولة والمشروع، من المهدي بن تومرت، إلى محمد بن الحسن".

ولعل مقاربتي للقطب أبي العباس السبتي، ضمن هذه الرؤية النسقية للمشروع التومرتي، تنبع من هاجسين:الأول استحضار هجمة الأصولية على المهدي بن تومرت. والثاني قيمة المشروع الفكري، في قيام الدول واستمرارها. وهذا ما يفسر ما انغلق في فهم المؤرخ الكنسوسي لظاهرة المهدي، لما قال: "فهو من عجائب قدرة الله تبارك وتعالى، الذي إذا أراد شيئا، كان ولو بأدنى سبب. فإن هذا الرجل مفرد عار من جميع الأمور التي توجب الملك، والتغلب على الأمم، عمد إلى دولة صحيحة، تامة القوى والعصبية، في عنفوان شبابها، فقوض بناءها وأفرغ إناءها".

كل هذا التذكير، لإرجاع الأستاذ التوفيق، إلى طائفته التومرتية- فليس هناك ما يشين في الانتساب إليها- ليعض بالنواجذ على المشروع المجتمعي الحداثي لصاحب الأمر، حتى لا تنهار الدولة. هل يفعل؟ بالتأكيد، إن وطّن نفسه على فضيلة الإنصات، زاده الله توفيقا!