الرفع من جودة الأفلام مطلوب، والإبداع مرغوب، وقطع الطريق على المتطفلين واجب، كل هذه الإجراءات باتت اليوم أمرا حتميا وجب على لجنة الدعم السينمائي بالمغرب انتهاجها قبل أيّ وقت مضى، وذلك أضعف ما يمكن أن تقوم به لجنة من المفروض أن تكون سيدة نفسها، مع العلم أن بعض الأفلام التي نالت الدعم سابقا لم يكمل أصحابها تصوير كل المشاهد، وقدموا أفلاما ملفقة، مرتقة، لم يخرج بعضها إلى القاعات بشكل مقبول، وها هم -اليوم- يضعون مشاريع أفلام جديدة.
شهدت سنة 2013 صرف مبلغ 60 مليون درهم لقطاع الإنتاج السينمائي بالمغرب، وقد تلقت اللجنة 50 مشروعا للفيلم الطويل، وسبعة مشاريع أفلام قصيرة، وشاهدت أربعة أفلام طويلة وثلاثة أخرى قصيرة بعد الإنتاج، وفيلما واحدا مرشحا للحصول على دعم الجودة، وطلبا واحدا لدعم الكتابة.
وبعد المداولات قررت اللجنة منح الدعم لواحد وعشرين فيلما طويلا، منها 14 قبل الإنتاج، و7 بعد الإنتاج، ولستة أفلام قصيرة قبل الإنتاج، أربعة منها بعد الإنتاج، واثنان بعده، ودعمت مشروع كتابة سيناريو واحد، وإعادة كتابة أربعة سيناريوهات خاصة بالأفلام الروائية الطويلة.
لجنة خفية
نتساءل بعد هذه المسيرة من الدعم عن هوية هذه اللجنة: هل هي لجنة تقنية أم هي لجنة رقابة في لبوس فني؟ وما الطريق الذي قادت إليه السينما المغربية؟ وما تأثير اختياراتها في تغيير الذائقة والإبداع معا؟
لنسلم جدلا بأن كل دعم مشروط، وبأن الدعم لم يتأتّ في المغرب إلّا بعد الأزمة، فهل كان شيكا على بياض؟ الجواب بالنفي طبعا، ولكن قراءة بسيطة في تركيبة اللجنة تبرز مدى سهولة التحكم في نتائجها ما دام الإداريون يشكلون جزءا مؤثرا فيها، وما دامت قراراتها تخضع للتصويت، وسلطة النقاد والمثقفين والفنانين ضئيلة فيها.
فكيف يعقل أن لجنة من “الخبراء” تطلب من مخرج معين أن يغير أسلوبه بعد أن ترسخ في سماء الإبداع المغربي والأفريقي والعربي والعالمي؟ هل يمكن أن ننسب ذلك إلى قلة خبرة “الخبراء” أم إلى كواليس اللجنة الخفية؟
يجمع النقاد والمتتبعون والجمهور وبعض المهنيين على أن السنوات الأخيرة قد عرفت انحطاطا إبداعيا وجماليا لا مثيل له في تاريخ السينما المغربية، رغم ارتفاع عدد الأفلام، ودار نقاش حامي الوطيس بين المدافعين عن الكم والمنافحين عن الكيف، بالرغم من اندفاع الطرف الأول لأسباب تعود إلى أن الإدارة السابقة للمركز السينمائي المغربي، كانت تتبنى الأطروحة الأولى وتدافع عنها بشراسة.
فلو أردنا التمعن في الميزانيات بشكل عملي لخلصنا إلى عدم تطابق ما نراه على الشاشة مع المبالغ المرصودة لإنتاج الأفلام، مع العلم أن الصيغة الأخيرة تعتبر مجرد تسبيق على المداخيل، والدعم في عموميته مساعدة على الإنجاز وما على “المنتج” إلاّ أن يبحث عن المزيد.
في ظل هذا المعطى نلاحظ بأن حجم الأموال يختلف بشكل مثير للتساؤل: فموازنات بعض الأفلام تتجاوز بالثلث أو تقترب من النصف كفارق بين فيلم وآخر دون أن تكون لذلك مدعاة واضحة، فالكل يدور في نطاق الدراما الاجتماعية، والنتيجة تكون في كل الحالات متطابقة، فلا فرق بين الأول والثاني إلاّ بالمكابرة.
إذ يبدو أن الأفلام تلتهم ميزانيات بعضها البعض، مما يخلق نوعا من عدم التوازن الذي يؤثر سلبا على الجودة والمهنية، ويخلق مشاكل كثيرة أثناء التصوير قد توقف بعض المشاريع كما هو حاصل الآن.
وكمثال على ذلك، حصل فيلم “أشلاء” لحكيم بلعباس على 200 ألف درهم عام 2011، ونال فيلم “كاريان بوليوود” لياسين فنان على مبلغ 5.600.000 درهم في نفس السنة، وشتان بين الفيلمين!
غياب الرؤى
بعد القراءة الأولية لمضامين الأفلام المدعومة يستشف عدم وجود خيط ناظم بينها، ولا تخضع لتوجه عام يضبط سيرها، فبعض المواضيع تبرز وتتوارى، كما أن نتائجها ترتهن بمعايير غير واضحة المعالم: تارة يرتبط الدعم بقيمة المخرج، وتارة بالثيمة التي يعالجها الشريط.
ولا شيء يصمد أمام هاتين الفرضيتين لأن النتائج تكون مخالفة لهما تماما، فقد نال الدعم أصحاب شركات غير حاصلين على الشهادة الابتدائية، ولا ندري هنا كيف دافع هؤلاء عن مشاريعهم، وهم المعروفون بتصريحاتهم المثيرة للسخرية حول السينما! وتلك ميوعة ما بعدها ميوعة.
والحصيلة تبين أن الدعم الذي لا تؤطره رؤية ثقافية معينة يتحول إلى نقمة، وإلى مجال ينقلب فيه البحث عن الاغتناء إلى ضرب من التجارة شبيه بالمضاربات العقارية.
لذلك، بات من الضروري التفكير في فلسفة تؤطر الدعم، ولم لا تكون ملحقة بالقانون المنظم للدعم، رغم أن اللجنة تتحمل المسؤولية الأخلاقية والأدبية والفنية والإبداعية في كل ما يصدر عنها من قرارات، وهي مسؤولة بقوة الوقائع على ما آلت إليه السينما من انحطاط لأن النتائج تعلن باسمها؟
وخلاصة القول أن السينما المغربية لم يكن بإمكانها الاستمرار في مثل هذا الدفق الكمي لولا دعم الدولة، لا سيما وأن دعم القنوات التلفزيونية لها لا يشمل الجميع، ومساهمة القطاع الخاص فيها ضئيلة. فكانت النتيجة كتلة من الأفلام القصيرة التي لا تتوفر على الحدّ الأدنى من الإبداعية، قد قامت بعض المؤسسات بإنتاجها دفعة واحدة، وبنفس الفريق كما تصنع المصانع علب المواد الغذائية، واتخذتها بعض الشركات ذريعة للحصول على المشاريع التلفزيونية.
وهناك شركات مرت بجل هذه المحطات، لكنها لم تستطع أن تشق لنفسها مسارا إنتاجيا لا في التلفزيون ولا في السينما ولا في الإشهار ولا في الأفلام المؤسساتية (!)..
والسؤال: كيف نمرّ من التشابه إلى الاختلاف الذي يضمن غنى وتعدد الروافد الثقافية للسينما المغربية، ويخرجها من قمقم الوضعية المأزومة الراهنة؟ وكيف يمكن دمقرطة المجال؟
محمد اشويكة: قاص وناقد السينمائي
العرب اللندنية (العدد: 9957- الثلاثاء23 يونيو 2015)