الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الوحيد خوجه: اغبالو، جزر، بصل ومفرقعات

عبد الوحيد خوجه: اغبالو، جزر، بصل ومفرقعات

اغبالو. قرية من بين آلاف قرى المغرب العميق كسمسة.

اغبالو خلقت في علاقة أزلية مع الماء وبالماء كسمسة.

صغارا كنا في الكتاب القرآني الوحيد داخل المسجد الوحيد نعد العيون. واحدة اثنتين... اثنتي عشر. في غفلة من الفقيه كنا نزايد بعضنا البعض عن من يكتشف عينا جديدة. كان أكبرنا يذكرنا أن عدد العيون لا يجب أن يتجاوز اثنتي عشر، مستشهدا بالآية القرآنية: "... فانفجرت منه اثنتي عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم.... الآية " صدق الله العظيم.

اغبالو. عشقها الفقيه الطالب إلى حد الوثنية. لا ينام إلا ورأسه جهة مجرى المياه. يلهي النفس بخرير الماء الأبدي. كان يردد على تلامذته: "العشق ماء الحياة، تقبله بقلبك وروحك، وكل من لا يعشقون، يعتبرهم أسماكا خرجت من الماء" (جلال الدين الرومي).

مات الفقيه وأوصى أن يدفن بجانب الماء. مات كما عاش، عاشق للماء. كان لا يتعب من تذكير جلسائه بعد صلاة كل عصر بأن الماء أصل الحياة حاثا إياهم على صيانته والحفاظ على صفائه. كنا نسمعه يكرر في غفلة منا "كان لديه الإناء ولم يحصل على الماء، ولما حصل على الماء انكسر الإناء" الرومي.

عيون ماء نتعب في تعدادها، مسجد واحد، قسم واحد. نساء يمتن فجأة، رجال يختفون بدون سبب هذه هي اغبالو. رتابة لا يكسرها إلا تعاقب الفصول. جزر وبصل وبعض الغلال. عاش سكانها حياتهم خارج المكان. لم يكن يربطهم بمحيطهم الخارجي إلا مسلك صخري لا تقوى على استعماله إلا البغال المدربة.

"بقرار من ذووي النيات الحسنة تم تعبيد الطريق. أنهت نسبيا معاناة الأهالي مع الأوحال. إلا أن النعمة تحولت بعد سنوات إلى نقمة. جاءت الطريق المعبدة فكثرت معها الأطماع. انكسرت الرتابة وأصبحت الطريق سالكة لكل أنواع الناقلات. وبالرغم من ذلك استمر سكان اغبالو في نمط عيشهم المستوحى من أصولهم المختلفة. استمروا يقيمون أفراحهم حسب قاعدة "مسكين ادى (تزوج) مسكينة وتهنات المدينة". كان الكل يقام بوسائل محلية ذاتية. الغياط والطبال والمزينة (النكافة) إلى أن جاء يوم ليس كباقي الأيام شاحنة "قد البحار" -هكذا يصف أهل اغبالو الأشياء المستعصية عن القياس-. مرت تاركة وراءها دخانا يكاد يخبأ شمس الأصيل. في اليوم التالي مرت شاحنتان ثم استأنس الناس بمرور الشاحنات الكبيرة وأصبح المشهد عاديا. تشجع بعض الفتية وقرروا الصعود إلى قمة الجبل لاستجلاء ما حدث. كانت المفاجأة! آليات عملاقة يحرسها رجال شداد غلاظ تحتل حيزا كبيرا من الجبل. لم يتجرأ أحد عن السؤال. عادوا أدراجهم وتحلقوا حول الفقية بباحة المسجد. تناسلت الأسئلة. من هؤلاء؟ وعما يبحثون؟ قال أحد الكهول إن الآليات تشبه تلك يتم بها التنقيب عن البترول. فالأمر إذا فيه خير لاغبالو. وقال أحد الشيوخ إن الأمر يتعلق بمعمل لتعبئة مياه العين داخل قوارير ليباع كغيره من مياه الجبال المعدنية. فإذا كان الأمر كذلك فلنشترط جزءا من مداخيل هذا النشاط. تمر الشهور ويستمر السكان بالتحلق عصر كل يوم قصد تتبع ما يجري في الجبل إلى أن فوجئوا صباح يوم بمدخنة كبيرة تخرج كالبعبع، تراءت لهم من بعيد. أضيف إليها بعد أيام مصباح جعلها ترى بالليل والنهار. وبشكل مفاجئ بدأ الدخان ينبعث من المدخنة بدون انقطاع. توجس السكان شرا ثم بدأوا يتطارحون أسئلتهم القديمة الجديدة. كيف سنوقف ما يقع وكيف سنحافظ على مصدر عيشنا من خطر الدخان. لا آذان صاغية لشكاويهم. دب إليهم الخوف. خوف مزدوج، عن أبنائهم وعن فقد مائهم عنصر حياتهم.

يزداد نشاط الجبل. شاحنات تمر محملة بأكياس الإسمنت تاركة وراءها غبارا يحجب الضوء. كظموا غيظهم يوم أن فسر لهم أن في رأس المدخنة مصفاة تحول دون تسرب المواد المضرة.

صباح يوم صيفي جميل تستيقظ السعدية كعادتها رشيقة، مرحة تصلي في صمت مخافة إيقاظ حفيدها. تضع ماء فوق نار ثم بحركات صوفية تضيف إليها قهوة وخليطا من العطور. تجلب رائحة القهوة بعض المارة الذين اعتادوا تحية السعدية كل صباح مقابل احتساء كأس من القهوة المعطرة. يتبادلون الحديث حول ماضي القرية وحاضرها ويتفقون جميعا على خوفهم على أرضهم وبعض غلال الجزر والبصل التي تمكنهم من التمسك بتلابيب الحياة.

كان كل شيء يتم وكأنه مرتب قبلا. ارتشاف قهوة تبادل كلام يسمع بالكاد ثم.... صوت فرقعة شديدة تحركت معه كؤوس القهوة وجدران البيت العتيق. قال أكبر الرجال سنا وهو ينظر إلى السماء الذي بدأ ينقشع عنها الظلام لعله رعد ضرب قمة الجبل، قالت السعدية أن مثل هذا الرعد تتبعه للتو أمطار، رفعت ببصرها إلى السماء وقالت كيف ذلك والسماء صافية. تفرق الجميع منهم من امتطى دابته ومنهم من جر بلغته عائدا إلى بيته، ثم فرقعة ثانية فثالثة ليعم السماء غبار غطى شمس الصباح الساطعة.

لم يعد هناك مجال للشك إنها مقالع الحصى التي نبتت كالفطر بجانب معمل الإسمنت. تجمع في دقائق معدودات بعض الرجال شبابا وكهولا في باحة المسجد. وبدأ اللغو من جديد وارتفع الكلام ليصل إلى خارج القرية.

لشهر ماي في اغبالو طعم خاص تهب الجنان نفسها للمارين. القاعدة الأولى هنا: كل إلى أن تشبع شريطة أن لا تحمل معك شيئا. كنا أطفالا نهجم كالنمل على ثمار المشمش والإجاص وما زال الحال إلى اليوم رغم قلة الثمار بفعل شيخوخة الأشجار وهجوم الغبار وموت بعضها واقفة.

وقف العياشي وسط أشجاره، شهور مرت سريعة منذ آخر مرة جاء إلى هنا. القاعدة الثانية في اغبالو أن الحقول والجنان لا تحرس لأن لا أحد يتجرأ إلى الدخول إليها قبل أن تنضج الثمار. تفقد العياشي إجاصة، حملق فيها مليا ثم أخذ ثانية فثالثة. أصبح لون الإجاص رماديا، غطاه غبار المقالع. ابتعد أمتارا ليتفقد غيرها. فقدت الأشجار الكثير من ثمارها. قتل الغبار كل شيء. دمعتان حارتان نزلتا على خده. خبأ وجهه لكي لا يراه الأطفال ثم انسحب في هدوء.

دخل البيت على إيقاع فرقعات الجبل التي أصبحت تؤثث لأيامهم. بعد أيام قليلة سيتغير لون الماء وسيختلط برائحة البنزين والبارود.

يحل مساء لا ككل المساءات. غربان تبحث في الأشجار عن تين نتئ. خاب مسعاها. تترجم ذلك بنعيق يصم الآذان. فرقعات متتالية ثم صياح لم يعرف أحد مصدره. جرى الجميع في كل الاتجاهات سمعوا من بعيد صوت امرأة تصيح. اقتربوا من المكان... كانت السعدية واقعة على الأرض من جــراء هول ما وقع... انهار جزء من بيتها".

(كل تشابه في أسماء الأمكنة والأشخاص هو من محض الصدف)