من أين كل هذه القوة عند "داعش"؟
"حزب الله"، ونظراؤه من ميليشيات "الحشد الشعبي" العراقي أو ميليشيات الحوثيين اليمنيين، أو غيرهم الأقل شهرة... كل هؤلاء مرجعيتهم ومموّلتهم معروفة، لا يسترونها ولا ينكرونها، بل يعلنونها جَهاراً. وإذا توقفوا عن الإدلاء بما يعزّز ولاءهم، يأتي المسؤولون الإيرانيون ليؤكدوا عليه، بتصريحات باتت ذائعة ومكرَّرة. أما "داعش"، فلا: هناك على الأقل عشر جهات، غالبيتها العظمى دول بعينها، أو جمعيات أو حتى حزب سياسي. فمن الولايات المتحدة وإسرائيل وقطر والمملكة العربية السعودية، إلى إيران وتركيا والكويت وسوريا و"جمعية الإغاثة الإسلامية" ومجموعات حزبية من البعث العراقي المنحل، ناهيك عن رجال الطريقة النقشبندية العراقية.. جميعهم، يرجَّح أنهم مولوا "داعش"؛ نقول يرجَّح، لأن كل المعلومات الداعمة لهذه الفكرة أو تلك، لم تأتِ إلا من "مصادر"، ولا برهان ملموساً، إلا شذرات هنا وهناك لا تقيم دولة "الخلافة الإسلامية"، ولا تغني عنها. كل حجة تحمل صفة الممكن أو المرجح.
والممكن في حالتنا هذه، أو المنطقي، أن هذه الجهات كلها قد تكون، ونلحّ على الـ "قد" هذه، دعمت "داعش" في بدايته نكاية بخصومها. كما يحصل عادة في كل زمن من أزمنة التاريخ؛ كما حصل عندما دعمت إسرائيل "حماس" لإضعاف ياسر عرفات، فعادت "حماس" وانقلبت عليها؛ أو كما دعمت الولايات المتحدة وحلفاؤها "طالبان" لتضرب بهم السوفيات محتلي أفغانستان في السبعينات والثمانينات؛ أو كما تفعل الولايات المتحدة نفسها الآن مع اليابان بدعمها لرئيس وزرائها شنْزو آبي، العامل بدأب على تغيير دستور بلاده بحيث تعود مجدداً دولة عسكرية معسكرة، تحارب الصين، العدو الصاعد لأميركا والمهدِّد لهيمنتها العالمية. الجميع قد يكون مارس سياسة تكتيكية "ذكية"، ولكنه أغفل الاستراتيجية، فكان نصيبه من الندم كبيراً على دعم "داعش" في بدايته.
فإذا كان من المرجّح أن كل هذه الدول قد أمدّت "داعش" في لحظة تكتيكية بالمال أو السلاح، وكانت قوة دفع أولى هائلة، فمن المؤكد الآن أنها، أي هذه الدول، تحاربها. ولكن هذه الحرب نفسها هي نقطة قوة إضافية لـ "داعش". لماذا؟ لأن لا الضربات الجوية الأميركية ولا شعار محاربة الإرهاب المقدس، ولا التنسيق الأميركي العراقي الإيراني، ولا الجيشين العراقي والسوري... تمكّنت من وقف توسّعه وتثبيت "دولته" على تلك البقعة الشاسعة من سوريا والعراق، وتهديده للأردن ولبنان بالمزيد. والكلام عن "مؤامرة" دولية خليجية أميركية إسرائيلية إلخ لإقامة هذه "الدولة" ليس سوى ترجمة لعدم فهمنا، لعدم استيعابنا لقوة "داعش" الفائضة. هذا من الناحية الذاتية، إذا جاز التعبير، وهي كلها قائمة على الترجيح، على غياب اليقين التام والدقيق.
أما القوة الموضوعية لـ "داعش"، فهي أقل غموضا: التنظيم الإرهابي يزدهر على أرض غلبتها روح العصر الإسلامية، وفي وقت تسبّبت فيه الثورات العربية بفوضى كاسحة، عرّت "الدولة" العربية من آخر سواترها، لم تجد مكانا لتستريح فيه غير هذه الروح. فإذا استثنينا تونس، أفضت هذه الثورات إلى إخلاء الساحة للنزوع الأمني الشديد، وإلى قتل الإيمان الديمقراطي، الضعيف أصلاً، عند الإسلاميين، وتقديم الإسلام السياسي العنيف بصفته سبيلاً وحيداً لإقامة العدل... وداخل مجتمعاتنا، لا توجد بدائل فكرية يُعتدّ بها، لا علمانية ولا ليبرالية ولا يسارية؛ حَمَلة هذه البدائل جميعهم أفراد معزولون، عاجزون عن استقطاب بعضهم البعض، ناهيك عن غيرهم. وحتى لو عُمل، كما هو حاصل الآن، على تلميع صورة تنظيمات بديلة عن "داعش"، فإن الذي يقع عليه الاختيار هو تنظيم إسلامي متطرف على غراره، أي "جبهة النصرة".
و"داعش" يتمتع ببيئة حاضنة، سنّية في غالبيتها العظمى. هذا ما سهل طرده من المناطق الكردية، كوباني خصوصا، وتحكّمه بالمناطق السنّية. أما الحرب التي يخوضها على الأرض، فقوامها كلها جيوش وميليشيات طائفية، تقودها إيران من قريب وعلناً، بتنسيق جوي، ملتبس، مع أميركا. هذا ما يعزِّز قدرات "داعش"، ويرفع من درجة الالتفاف حوله، وتكريسه رأس حربة السنّة العرب، قبل التحالف العربي، قائد الحرب على الميليشات الحوثية. فكلما اشتدت القبْضة الإيرانية، عبر ميليشاتها أو جيوشها المحلية الموالية لها، يكسب "داعش" الميدان، ومعه غنائمه. أضف إلى كل ذلك الغياب القاتل للإستراتيجية الأميركية، وضعف أوباما أمام وعده لنفسه بأن يسجل إنجازاً ما في عهده، أي إنجاز؛ وعبثية هذه الرغبة قد تكون تعبيراً عن هُزال أميركا نفسها. وهو هُزال قد يدوم عقوداً من الزمن.
طبعاً لا يمكن التقليل من قيمة غنائم "داعش" من "ضربته" الأولى، من أموال الموصل إلى تجارة النفط والفوسفات والآثار والبشر وكل ما هو متوفر من موارد أولية، فضلا عن الضرائب، المسماة "زكاة"، يعيش في ظلها سكان تائهون فقراء مشردون، لا يريدون من هذه الدنيا غير قليل من الخبز والأمان.
"داعش" بعد كل هذا، لديه إستراتيجية بربرية متوحشة، قل ما شئت عنها، ولكنها إستراتيجية. والخطر، كل الخطر أن يفاجئنا بالمزيد، تماماً كما فعل هتلر يوم تسلّق سلالم السلطة العليا. كثيرون وقتها سكتوا عنه، تواطأوا معه، غضّوا الطرف عن خطره الساحق الماحق؛ ولم يشرعوا في صياغة إستراتيجية جدية للحرب ضده، إلا عندما بات يهدِّد العالم بأسره.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)