قبل سبعة أيام كنت قد أمسكت القلم بريق صباحه بالكلمة الأولى على الدوىّ الأول لزلزال النيبال المنكوبة.. لكن القلم هذا كلما أمسكته في الصباح، كان يقفل للجيب راجعاً في المساء منكوساً منكوباً ولليوم السادس على التوالي، ودون تلك الكلمة المعهودة.!
القلم كان يُحصي ويأمل فيسأل: هل من مزيد في عدد الناجين؟..
والمداد يمدّه بإحصائية أكبر في عدد الجثامين.. كلّ يوم والألفية تتضاعف: في الثالث ثلاثة آلاف، وفي الرابع أربعة آلاف، والخامس بخمسة.. واليوم السادس والضحايا 6621، مع فقدان الأمل بالناجين، وصعود العدد إلى 14,023 للمصابين!..
إن كانت شدةُ ريختر درجاته 7,8 هذه المرة، من أشد الشدائد على النيبال منذ 80 سنة!.. فإنه كان قرار الزلزال ودون الرجوع لمجلس الأمن أو الأمم المتحدة، إذ وأخيراً قرر الزلزال أن يزلزل قمم الجبال على غرار ما تزلزله الديناميت والمتفجرات القيعان من سهول البلدان وبطون الحيتان..
في (كتماندو) ألقي القبض على صبي في 15 من عمره، وفتاة في العشرين من عمرها، متلبسين بجريمة الحياة بلاموت تحت أنقاض وركام المباني، فنالا عقاب الإسعافات الأولية أولاً، ثم عقاب ركوب سيارات الإسعاف المزودة بالأوكسيجين ثانياً، ثم عقوبة دخول غرف الإنعاش في المستشفيات لاستعادة الحياة ثالثاً.. في كتماندو لا يُعاقب من لم يمت بسيفه عليه أن يموت بسيف غيره، ومن كتماندو تعلمنا أن الموت حق أينما كنا، ومهما عرجنا القمم من التسلق بجبال إيفريست النيبالي أو الاحتفاظ بمرتفعات الجولان العربي!..
ومن كتماندو علينا استنساخ تلك الأجهزة المتطورة الباحثة عن الناجين، والكلاب المدربة على استنشاق أنفاس المنكوبين وهم يتنفسّون أحياء تحت الأنقاض، لإحلالها كلاباً كلّت وملّت من شم الغراء والحشيش والمخدرات، وأجهزةً متطورة بالتفجير تلو التفجير لأكثر عدد طُعمة من الأجساد، وليترشحن موسوعة جينيس للأرقام القياسية للقتلى والجرحى..!
نيبال من الدول الفقيرة التي تعرضت لانتكاسة الزلزال، وهناك بلدان أخرى فقيرة تتعرض للانتكاسة ذاتها، منها أثيوبيا والسودان وبنغلاديش، والجرح لن يندمل في تلك الدول لشدة فقرها، والتي تفوق أحيانا أضعاف شدة الريختر، عكس ما قد تقابلها من الدول الغنية بالثروات والتقنيات، فبعد كل زلزال في اليابان مثلا ترى اليابانيون أحلوا عواصمهم إحلالات ما تقيهم من الزلزال القادم، وكالحرائق في الولايات المتحدة، مهما اشتعلت والتهمت الغابات، تبقى أمريكا قوية تلهم المزيد من الولايات.!
لكن الأمر لله، إذا كان يتعلق ببلدان فقيرة كنيبال وبنغلاديش.. فإن تزلزت إحداها بزلزال القمم، وغرقت أخراها بفيضانات القيعان، فإن عواصم هذه الدول المخبوءة تحت رداءت الفقر المُرقّع ما يزيدها الزمان إلا بؤسا واكتئابا، وأن كلّما عمّرتها في العقود من الزمان، لن تعيدها لها قروناً من الزمان، إن لم تأت السماء لها بمعجزة الولادة من جديد ودون آثارٍ لتلك الكوارث على جدرانها وإنسانها.!
ما تبقت من ارتدادات زلزال نيبال في آخر يوم من شهر أبريل 2015 وما تعالى من ضجيج عيد العمال بكل أنحاء العالم بأول يوم من شهر ماي 2015، وما بين هذين اليومين من بين بين، يجعلنا نؤمن إيماناً قاطعاً، بأننا في أمس الحاجة إلى بابا نويل جديد، يقف على الحدود الدولية لكل بلد عربي، لا نريد منه أن يلبس طربوشا أحمرا على رأسه ولحية بيضاء على ذقنه وجرسا في يمينه.. كلما نريد منه أن ينتهز وقت نوم الجنود والمجاهدين والمنافقين معاً، والعدول والظلمة معاً، والصادق والكاذب معاً، والثقاة والفسّاق معاً، تلك التصنيفات التي أتت الأمتين زلازلاً أبادتهما عن بكرة أبيهما..!
نريد منك في زمن الزلزال يا بابا نويل، أن تنتهز نوم هؤلاء كلهم بلا استثناء، وتترك تحت وسادة كل منهم طلسماً يوقظهم بالإجماع ويقرأوه بالإجماع.
نريدك أن تعطيهم طلسم أدب الحوار، يتعلموا منه كيف يناقشوا ويختلفوا ليتفقوا، طلسماً يذكرهم كيف أتفقوا يوماً فاستلموا الأندلس والقسطنطية وهم على البغال والخيول، وكيف اختلفوا ففقدوا القدس ودمشق وبغداد وهم على الدبابات.
نريده بابا نويل وبالطلسم المذكور، ولا نريده بالملاّ والواعظ والخطيب بالكرسي المسحور، فإن هذا الكرسي هو الذي انبعث منه شعاع الزلزال الفكري في مجتمع كان بمعايشة الألوان يوما، فتحول في ليلة يعاني من عمى الألوان، لا يرى الجمال إلاّ قبحاً، ويشمّ المجاري عطراً..
يجب أن نستعدّ الآن على دوىّ آخر ارتدادات زلزال النيبال، لنتخلص من كل الزلازل الداخلية والبينية، وبعد القضاء على هذا الطابور الثالث الخفي الذي يعرقل دائما وحدة الصف العربي الإسلامي الأصيل، أن نبنى بوحدة ثقافية عربية إسلامية، ذلك الجبل الشاهق الذي كان يفوق إيفرست النيبالي؟
لا تقل (أممكناً إقامة هكذا جبل.؟).. بل قل (أممكنٌ استعادته؟).
لأنه قائم بالفعل على الكتاب والسنة، يعلو ولا يُعلى عليه، مهما تأتيه الشياطين بالضُبب والغيوم لتُخفيها، تأتي السماء بتعهداته (وإنا له لحافظون).. ما علينا إلاّ إزاحة الستار عنه.. فقولوا لا إله إلا الله واتّحدوا...