الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
فن وثقافة

على هامش عرض فيلم "بولنوار": الفعاليات الفوسفاطية باليوسفية تطالب بإحداث متحف للذاكرة المنجمية

على هامش عرض فيلم "بولنوار": الفعاليات الفوسفاطية باليوسفية تطالب بإحداث متحف للذاكرة المنجمية

"ألو ألو معاش غادي تبداو الفيلم".. هذا السؤال تردد عشرات المرات عبر الهواتف المحمولة للجنة المشتركة بين جمعية الشعلة للتربية والثقافة والنقابة الوطنية لعمال الفوسفاط (ك.د.ش)، لأن عرض الفيلم في الهواء الطلق بالنادي الرياضي للكرة الحديدية باليوسفية كان مرتبطا بغروب الشمس، لتتضح مشاهد بولنوار السينمائية في ليل الويجانطي الحالك في غياب قاعات للعروض .

فبعد عصر يوم الثلاثاء الماضي، تحول فضاء النادي إلى محج لمختلف الشرائح الاجتماعية، نساء ورجالا وشبابا، ينتسبون لعائلات وأسر فوسفاطية خبرت مناجم الكنتور وكل أنواع القهر والظلم وأصناف العذاب المهني وأمراضه والتوقيف عن العمل والطرد عبر محطات نضالية بطولية، كان آخرها إضراب 1986.. متقاعدون شكلوا حلقات للحوار والتواصل فيما بينهم مستحضرين قساوة لحظات الظلم والقهر تحت الأنفاق، مختلفين أو متفقين عن أسباب موت العشرات من السواعد تحت ركام انهيارات الحشة وطمر أجسادهم في مقابر جماعية منذ سنوات خلت كانت فيها الكلمة للكابران والشاف .

استحضار تلك الصور المأساوية ومواجعها الاجتماعية، فعل فيه مدخل المنجم الذي تم بنائه وتأثيثه بمختلف وسائل العمل (لامبة، خودات، ملابس العمل الزرقاء، أجزاء من الناقلة المطاطية، أحدية، البالة والفاس، قطع من الأعمدة الخشبية...)، حيث تحول مدخل المنجم كبوابة لمتابعة فيلم بولنوار ومشاهده الرائعة والمستفزة، في نفس الآن، عبر شاشة ضخمة استقطبت كل المارة من الشارع بحي الأمل لمتابعة مشاهد الفيلم خارج أسوار النادي .

كانت أقوى اللحظات لنفض الغبار عن الذاكرة المنجمية، هي تهافت العشرات من الشباب وآبائهم المتقاعدين وزوجاتهم لأخذ صور تذكارية وسط النفق الذي هندس وصمم بطريقة إبداعية توحي للعابرين والعابرات من الجمهور والفعاليات السياسية والنقابية والحقوقية والجمعوية من وسطه أنهم داخل منجم من مناجم اليوسفية رغم قلة الإمكانيات والوسائل وغياب الدعم ... لكن كانت الفكرة واللحظة أقوى من الخصاص ومن إمكانيات الضفة الأخرى، بصدقها ونبلها وصفائها اعترافا بذاكرة مدينة يريد البعض طمسها ومحوها... مئات الكراسي امتلأت عن آخرها، دفع المنظمين إلى استعمال مدرجات النادي الإسمنتية وتخصيصها كمقاعد للجمهور الغفير الذي حج لمتابعة رواية فيلم "بولنوار" مدة ثلاث ساعات ونصف، رغم برودة طقس الحصاد ليلا .

دموع نساء اليوسفية، خلال عرض الفيلم، كانت أبلغ تعبير على مرحلة تاريخية مظلمة سادت فيها الحكرة والبطش في أبلغ صوره الحاطة من الكرامة الانسانية.. زفير وآهات رجال الكنتور المتقاعدين يسمع هنا وهناك، وهم يستحضرون معاناتهم بين مخالب المناجم المظلمة تحت الأنفاق الباردة.. صمت الشباب وهم يتابعون مشاهد "بولنوار" التي تعكس واقع أجدادهم وآبائهم وانبهارهم بتضحياتهم ودفاعهم عن عشق التراب وملح الأرض الطيبة ضد المستعمر والإدارة.. صبيب من الألم والأمل ينساب بين الصور واللقطات ويفجر المكنون بحوارات بين "ولد العزوزية" البطل النقابي الوطني ومجموعته المناضلة عبر الخيط الناظم للحركة النقابية الجنينية وبين رموز سلطة المخزن والمستعمر والإدارة... ليتحقق الهدف من العرض البطولي زمن الاستبداد وينجح المخرج في بعث رسائل لمن يعنيهم أمر هذا الوطن .

لقد تمكن شركاء هذا العمل من تغيير رتابة زمن اليوسفية وتحريك عقاربه وضبطها على موعد  الكتابة المتجددة والنبش في الذاكرة المحلية، والانفتاح على كل الطاقات والإطارات والفعاليات، كما قال رئيس اللجنة المشتركة لتحصين ذاكرة المناجم بمنطقة الكنتور الأستاذ حمزة مصطفى، مؤكدا على مقاييس الاشتغال داخل لجنة البحث والتدوين، منوها بمجهودات جمعية الشعلة للتربية والثقافة والنقابة الوطنية لعمال الفوسفاط (ك.د.ش) والنادي الرياضي للكرة الحديدية باليوسفية، شاكرا للمخرج موقفه المنتصر للتاريخ والجغرافيا كمسلك ومنهج لاستنهاض الفكر وإعمال العقل البشري لتحقيق التنمية المنشودة وتصفية تركة عهد الحماية على كل المستويات .

إن رسائل فيلم "بولنوار" التاريخية، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ونقابيا، قد حققت الهدف من خلال  تسجيل انطلاقة الحركة النقابية الجنينية وبذرتها الأولى بمناجم الفوسفاط وتركيزها على التحول العميق الذي ستعرفه عقلية المجتمع الرعوي الفلاحي نحو الإنتاج والتصنيع وقوى الاستغلال دون أن يغفل وضعية المغرب السياسية والاقتصادية في فترات محددة من تاريخه ومسببات الاحتلال وسلبيات وإيجابيات مراحل الاستعمار الفرنسي ومصالح قوى الرأسمالية المتوحشة، ومواقف الحركة الوطنية .

جمهور اليوسفية وفعالياتها، ردت الجميل للمخرج حميد الزوغي وأبطال فليمه، ونوهت بالكاتب السوسيولوجي عثمان أشقرا صاحب رواية "بولنوار" الذي سلط الضوء على هذه الفترة التاريخية من خلال الوقوف الجماعي وحرارة التصفيق ومعانقة المبدع والإشادة بالممثلين والممثلات الذين سجلوا أروع المشاهد خارج وداخل أنفاق الظلم والاستغلال والكشف عن عشق مجتمعنا لموروثه الإنساني المتعدد الروافد التراثية عبر كل مجالاته الجغرافية .

فهل ستستجيب تلفزتنا المغربية لمطلب برمجة مسلسل "بولنوار" في أربع حلقات، وتخصص أربع ساعات للمواطن المغربي ليستشكف هذه الفترة من تاريخه؟ وهل سينخرط المجمع الشريف للفوسفاط في رد الاعتبار لذاكرة المناجم ويدعم هذا العمل الإبداعي لمصالحة الشغيلة الفوسفاطية مع تركة إدارته؟؟