ما يشهده العالم اليوم، وبالخصوص في الدول العربية، من دعوات للجهاد، وقرع لطبول الحرب، وإعلان للاستنفار ضد العدو؛ يدعونا إلى طرح تساؤلات واستفسارات عدة حول مشروعية الحرب والقتال. ومن بين هذه التساؤلات: متى يمكن أن يشرع الجهاد؟ وفي أي مكان؟ ومتى يمكن لدولة أو شعب أن يعلن الحرب على العدو؟ وأي عدو هذا الذي تعلن الحرب ضده؟ وهل الإسلام شرع الحرب والجهاد لمقاصد وأهداف أغلبها إنسانية، أم يطغى عليها التجبر والقهر والهمجية؟
لذلك دعونا في البداية أن نستدعي بعض مقاصد ومزايا الإسلام في هذا الشأن، لنتبين من هذه الدعوات مدى صدقيتها، واستجابتها لظروف الزمان والمكان، ولعنصر فقه الواقع.
إن المتأمل في محاسن الشريعة الإسلامية لابد أن يكتشف صور مزاياها ووجوه تسامحها، ونبل مقاصدها، ونصوع عدالتها؛ ومن مميزات العدل الإسلامي أنه عدل إنساني للبشرية جمعاء، ورسالة الإسلام رحمة لشعوب العالم على اختلاف أجناسهم وأديانهم وأوطانهم. وبالتالي فالإسلام دين لا يحارب مخالفيه لأنهم امتنعوا عن اعتناقه، وإنما يحارب العدوان عليه أو على مصالح الدولة المسلمة؛ من باب الدفاع الشرعي عن حوزة الدين والوطن، وليس اختلاف الأديان والأعراق والثقافات، مصداقا لقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم و من يتولهم فأولئك هم الظالمون".
لقد بدأ نزول أول نص تشريعي يأذن بالقتال للمسلمين بعد أربعة عشر سنة، تقريبا، من بدء نزول الوحي، وهو في قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، و لله عاقبة الأمور".
وهنا؛ إذا تأملنا الآية نجدها قد وقفت عند حد الإذن، ولم تتجاوزه إلى الوجوب، فقد بينت وجه الحكمة في تشريع القتال، وهو "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..." أي أن القتال سببه الظلم الواقع من الذين قاتلوا على الذين قوتلوا، أي قتال لردع الظلم ودفع العدوان.
ثم بينت الآيتان التاليتان وجوها أخرى من وجوه حكمة التشريع في الإذن بالقتال؛ فبالقتال يدفع الله به ظلم الظالمين، وتصان الحرمات، وتحمى القيم الدينية، ولولا إذن الله فيه لكثر الفساد في الأرض، ولهدمت دور العبادة على مدى التاريخ النبوي كله، و لامتهنت حقوق أقليات كثيرة من النصارى واليهود وغيرهم.
ثم إن هذا الإذن بالقتال ليس لكل من هب ودب، أو لكل من سولت له نفسه، أو مصلحته السياسية أو العرقية، أن ينشئ جماعة أو حزبا أو حركة جهادية (قتالية)، ثم يبدأ بسفك دماء الأبرياء دون وجه حق، ولكن يبين، سبحانه، أن القتال المأذون به مضبوط ومقصور على "الذين إن مكن لهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر"، وهم الذين تعنيهم مصلحة الوطن والدين؛ أي لا يتخذون من تمكين الله لهم في الأرض وسيلة للظلم والفساد، وإنما يصرفون قدراتهم التي من الله عليهم بها في نصرة الحق، وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، ويسيرون سيرة حسنة، يشهد لها العالم، ويشهد لها العدو قبل الصديق.
لا كمن إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل. وبالتالي فمشروعية القتال انبثقت من عزة المسلمين بدينهم، حفاظا على الحق من عبث العابثين، وظلم الظالمين، وعنت المتكبرين.
لكن مشروعية القتال ووجوبه في كل الحالات؛ لا يمكن أن يخرج عن نطاق الحفاظ على إنسانية الإنسان، ولو كان عدوا مقاتلا، بله مسلما موحدا، فلم يشرع القتال في الإسلام ليكون وسيلة للبطش والتجبر والقهر، وحب سفك الدماء، ونهب الأموال، كما يتصور كثير من أصحاب تلك الدعوات، التي افتتحنا به المقال، بل شرع لرد الظلم، وحماية الحق، ورعاية الفضيلة. أكثر من هذا، شرع لإقرار التوازن في الأرض، وإشاعة السلام والأمن، والقضاء على الطغيان.
وباستدعاء بعض النماذج من أحداث الفتوحات الإسلامية في التاريخ قديما، لم يُعرف فاتحا أرحم ولا أرأف من المسلمين؛ وكلما تصور الإنسان سماحة الإسلام، وثبت في ذهنه صورة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو داخل منتصر عزيز الجانب إلى مكة، وأهلها خائفون مذعورون من انتقام المنتصر، لكنه ضرب مثلا أعلى للعفو والصفح عند المقدرة، وعلى هذه السنة سار الخلفاء الراشدون، وكذالك الفاتحون من بعدهم. فلم يُسمع عن أحدهم أنه احتجز رهينة، أو قتل أسيرا، أو حتى عذبه، أو أحرقه أو مثل بحثته، كما يفعل اليوم من ينسبون أنفسهم للدين، والدين مهم براء.
فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي، وإرغام الناس على اعتناقه، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظل نصرانيا، و لليهودي أن يظل يهوديا، كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحد أن يؤدوا شعائر دينهم. ولم يكن أحد لينزل أذى أو ضررا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم، وبيعهم وصوامعهم وكنائسهم.
إن مبدأ ضبط الحرب في الإسلام بقيم إنسانية نبيلة من المبادئ المهمة التي يجب أن يشاد بها في الفكر والتاريخ الإسلامي حتى في أحلك الظروف. فمشروعية القتال في الإسلام محفوفة بقيود وضوابط وقيم إنسانية عالمية، حتى لا يساء استعماله كما ساء في عصرنا هذا، وكما يساء في استعمال كثير من الواجبات والحقوق في الدولة الإسلامية.