السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: لا أسباب سوسيولوجية للداعشية

دلال البزري: لا أسباب سوسيولوجية للداعشية

دأب أهل الغرب على "تفسير" صعود النازية في أوروبا المتحضرة، فرددوا من دون كلل بأن الأيديولوجيا النازية تستمد كل جذورها مما عانت منه ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى: أي الإذلال الوطني بعد اتفاقية فرساي التي اقتطعت أجزاء جنوبية منها لصالح فرنسا، وأزمة التضخم الاقتصادي الأسطوري، فضلاً عن البطالة التي نالت من نسبة قياسية بين أبنائها، وقتها. لذلك صعدت النازية في ألمانيا ووجدت لنفسها تحالفات، وارتكبت جرائم ضد البشرية واخترعت المحرقة اليهودية، إلخ.

اليوم، مع تسرّب شباب أوروبي نحو "داعش"، يكرر الغربيون المنهج نفسه، يبحثون عن "أسباب"، كالتي وجدوها في الأيديولوجيا النازية، ولا ينفكون عن تعدادها، وتعميقها وتحسينها وتزويدها بالأرقام والشهادات. فيعلنون ما بتنا نعرفه جميعاً؛ من أن هذا الشباب "يهاجر" إلى سوريا والعراق لمشاركة "داعش" بجرائمه، لأنه شباب يعاني من "أزمة هوية"، من البطالة، من الهوامات الجنسية، من العنصرية، من التهميش، من الحاجة إلى التقدير والكرامة، من ذيول الاستعمار الأوروبي، بل من الحاجة الملحّة إلى سبب ليعيش، سبب "نبيل"، يقول أحد كتابهم.

أما من جهتنا، نحن الشرقيين، فلا نقوم بشيء مختلف تماما، عندما نستنبط "أسباباً" سوسيولوجية أخرى تدفع شبابنا للذهاب إلى الجهاد الداعشي: نتكلم عن الفقر المدقع، وعن غياب الأفاق المستقبلية، عن البحث عن كرامة إنسانية، عن القضاء على مخلفات الاستعمار "الصليبي"، أو حتى الإمبراطورية الرومانية؛ ونضيف إلى كل هذا، الصراع السني الشيعي المحتدم، الذي يدفع شباب السنة إلى الأخذ بحقهم من الذين سبقوهم في التعبئة القتالية المعادية على أسس مذهبية؛ فكان ردهم "الطبيعي" على ذلك بالانضمام إلى نظير التنظيمات الشيعية، أخذاً بالثأر وحماية للأهل، إلخ.

والمغري في موضوع "الأسباب" هذا، هو التساؤل أيضا عن دوافع ممولي وداعمي الإرهاب الداعشي السريين: أسباب جيوسياسية؟ صناعية عسكرية؟ أو سياسية بحتة؟ أو أيديولوجية؟ أو "تراثية"، كما يريد البعض؟ طالما أن الداعمين هؤلاء لا يعانون أزمة فقر أو تهميش أو بطالة... فما الذي يدفعهم إلى المساهمة، على طريقتهم، بالتحاق "الشباب الضائع" بـ "داعش"؟ ما الذي يجمعهم بأولئك الشباب؟ ثم ما الذي يجمع كل الداعشيين وأسبابهم المتفاوتة، المتنوعة، في بوتقة واحدة؟ أو بعبارات أوضح، ما الذي يدفع الباحث عن "سبب متسامٍ للحياة" أو "للموت"، بآخر يبحث عن سبب للقتل، القريب منه والبعيد؟ ما الذي يفرق الموت والقتل مع "داعش" عن أي مجالات أخرى للموت والقتل؟ وهي متوفرة بشدة، بل متصاعدة الوتيرة في أيامنا المجيدة هذه...؟  

يجمعهم استثنائية "داعش" وإبداعه الإجرامي: فـ "داعش" يقتل بضمير حيّ، مسنود إلى مقدس، يقتل بأسلوب خاص، جماعي، منظم، معلن، له نكهة السحر السينمائي؛ يقتل داعش بصراحة، لا يخفي جريمته، ولا يضطر إلى رمي الجريمة في صناديق الأسرار التي تقتل من يكشفها. يقتل "داعش" بإيحاءات كلها رهبة، يزهو أمام الملأ بإعادة البشرية إلى عصور الهمجية. ثم إن "داعش"، في كل جريمة يرتكبها، يخترق سقفاً من العنف، يبتكر سوابق في القتل هي الأعنف، الأقصى، الأكثر مشهدية. وبعد كل عملية يتساءل المرء عن البدعة الإجرامية الجديدة.

والأرجح أن هذه الكيمياء الجديدة التي أشاعها "داعش"، هذا العبء الكوني الذي فرضه على البشرية، هذه القوة في "الصمود" أمام كل الائتلافات والضربات الجوية، هذا الاعتزاز بارتكاب الفظاعات.. كل هذا فرض مناخا أقوى من الأزمة الاقتصادية وأزمة الهوية، أقوى من كل "الأسباب" المنشودة الأخرى التي تعطينا ما نحتاج إليه من "تفسير" لفهم ظاهرة هجرة الشباب، الغربي أو الشرقي، نحو "داعش".

هذا المناخ لم يولد من العدم؛ إنه مزيج من العولمة والبدائية وكل تقاليد الموت السالفة، الدينية منها والزمنية. إنه مناخ يرسل بذبذبات الموت الساحرة، وليس "داعش" سوى سببه ونتيجته في آن. "داعش" يغوي من دون أسباب سوسيولوجية أنثربولوجية؛ إنه يخاطب الموت بمهارة من يعتقد أنه الله، وهناك من يصدقه.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)