في منعطف تاريخي، اعتمد مجلس الأمن الدولي في 31 أكتوبر 2025 قراراً يمثل إطاراً جديداً للتسوية السياسية للنزاع الطويل حول الصحراء المغربية. وقد حظي هذا القرار، الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية، بتأييد 11 دولة، بينما امتنعت روسيا والصين وباكستان عن التصويت، في حين عارضته الجزائر. يُعرِّف هذا القرار الجديد خطة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب عام 2007 باعتبارها "الأساس الجدي والواقعي الوحيد" للحل السياسي، معتبراً أن الحكم الذاتي تحت "السيادة المغربية هو "الحل الأكثر واقعية وقابلية للتحقيق".
يُمثل هذا التطور الدبلوماسي انتصاراً استراتيجياً للمغرب، ويعكس تحولاً جوهرياً في النهج الدولي تجاه هذا الملف. وقد علق الملك محمد السادس على هذا القرار واصفاً إياه بأنه "يتيح فصلاً جديداً منتصراً في مسار ترسيد مغربية الصحراء". هذا التحول لا يقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل يفتح الباب على مصراعيه لتداعيات اقتصادية كبيرة، حيث يرسل رسالة طمأنة واضحة للمستثمرين الدوليين بشأن استقرار الوضع في المنطقة ووضوح إطارها القانوني والسياسي المستقبلي..
الاستقرار السياسي كحافز للاستثمار
يُعد قرار مجلس الأمن خطوة حاسمة لتقليل المخاطر الجيوسياسية، والتي كانت لسنوات طويلة عقبة أمام تدفق رؤوس الأموال الأجنبية. فالمستثمرون الدوليون، الذين يتجنبون عادة المناطق ذات النزاعات الإقليمية غير المحسومة، يجدون الآن في هذا القرار الأممي أساساً متيناً لثقة متجددة. وقد بدأت تظهر ثمار هذا التحول الدبلوماسي على أرض الواقع، حيث أعلنت الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي للقرار، عن عزمها تشجيع الشركات الأمريكية على الاستثمار في الأقاليم الجنوبية للمملكة، مؤكدة أن هذا الاعتراف "لم يكن مجرد اعتراف رمزي أو على الورق، بل هو اعتراف حقيقي بنتائج ملموسة".
الدعم الدولي والاستثمارات العملية
لا تقتصر هذه الدينامية على الجانب الأمريكي فحسب، بل إن عددا من الشركاء الدوليين البارزين، وعلى رأسهم فرنسا، قد انضموا إلى هذه المسيرة. فخلال زيارة دولة إلى المغرب في أكتوبر 2024، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعمه الثابت لخطة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية. وقد توجت هذه المصالحة الاستراتيجية بين البلدين بتوقيع اتفاقيات استثمارية ضخمة بلغت قيمتها 10 مليارات يورو، شملت مجالات النقل والطاقة المتجددة والتحول الطاقي. هذه الاستثمارات العملية تثبت أن القرار السياسي الدولي يترجم مباشرة إلى فرص اقتصادية حقيقية .
مشاريع البنية التحتية الكبرى: تهيئة الأرض للاستثمار
يُعتبر "النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية"، الذي أطلقه الملك محمد السادس في عام 2015، حجر الزاوية في تهيئة المناخ الاستثماري. وقد خصص لهذا النموذج استثمارات عمومية هائلة تفوق 80 مليار درهم مغربي. تُرجمت هذه الاستثمارات إلى مشاريع بنية تحتية عملاقة، أبرزها ميناء الداخلة الأطلسي، الذي يُخطط لأن يصبح محوراً لوجستيكي يربط بين إفريقيا وأوروبا. كما تشمل المشاريع تطوير طرق سريعة ومراكز للطاقة المتجددة في كل من العيون وبوجدور، .مما يخلق بنية تحتية طاقية جاذبة للصناعات الحديثة.
الرؤية الاقتصادية: نحو مركز إقليمي للطاقة والتجارة
يتجاوز الطموح المغربي مرحلة جذب الاستثمارات المنعزلة، إلى العمل على تحويل الصحراء إلى قطب اقتصادي إقليمي. وتتمثل الرؤية الاستراتيجية في دمج المنطقة في مشاريع كبرى مثل خط أنابيب الغاز "نيجيريا-المغرب"، والطريق الأطلسية الإفريقية، وممرات الهيدروجين الأخضر. هذا الموقع الاستراتيجي يجعل من المنطقة جسراً طافيا وتجارياً بين القارة الأوروبية وإفريقيا، مما يزيد من جاذبيتها كوجهة للاستثمارات طويلة الأمد والهادفة إلى خدمة أسواق شاسعة.
السياق العالمي: تميُّز في بيئة استثمارية صعبة
يأتي هذا التقدم في وقت يشهد فيه الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي تراجعاً مستمراً بسبب التوترات التجارية وعدم الاستقرار الجيوسياسي. والأكثر إثارة للقلق هو أن تدفقات الاستثمار إلى إفريقيا شهدت انخفاضاً حاداً بنسبة 42٪ في النصف الأول من عام 2025. في هذا السياق العالمي المتشائم، يُعد التقدم الواضح في حل النزاع حول الصحراء، والاستثمارات الكبرى في بنيتها التحتية، عاملاً مميزاً يمكن أن يحصن الاقتصاد المغربي والإقليمي ضد هذه الاتجاهات العالمية السلبية، ويجذب حصة متنامية من رأس المال الدولي المحدود..
الاستثمار كدليل على الثقة
بدأت تظهر بالفعل بوادر عملية على الأرض تثبت صحة هذه التحليلات. فمثلاً، أعلنت مجموعة "أزورا" الفرنسية المغربية عن استثمارات كبيرة في منطقة الداخلة تقدر بقيمة 200 مليون درهم. مثل هذه الاستثمارات من القطاع الخاص تمثل إشارة قوية على أن بيئة الأعمال في المنطقة تكتسب ثقة المستثمرين، ليس فقط بسبب القرارات السياسية، ولكن نظراً للفرص الاقتصادية الحقيقية والبنية التحتية المتطورة التي بدأت تأخذ شكلها على الأرض .
التحديات والآفاق المستقبلية
رغم هذا المناخ الإيجابي، تظهر هناك تحديات لا يمكن تجاهلها. فقد أشار المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، إلى أن خطة الحكم الذاتي المغربية ما تزال "تحتاج إلى مزيد من التفاصيل والتطوير". كما أن الموقف القانوني للاتحاد الأوروبي، ممثلاً في أحكام محكمته الأوروبية التي علقت سابقاً بعض الاتفاقيات مع المغرب التي تشمل الإقليم، يظل بحاجة إلى توافق مع هذا التحول السياسي الجديد. ومع ذلك، فإن الزخم الدبلوماسي الحالي يضع ضغوطاً قوية على هذه الأطراف لتعديل مواقفها.
خاتمة: من النزاع إلى فرص الاستثمار
باختصار، لم يعد القرار الأممي التاريخي مجرد تطور دبلوماسي، بل تحول إلى محرك اقتصادي قوي. لقد نجح المغرب، من خلال الدبلوماسية النشطة والرؤية الاقتصادية الواضحة، في تحويل المسار من نزاع إقليمي مجمد إلى فرصة استثمارية واعدة. إن الاستقرار السياسي الذي يعززه القرار الدولي، إلى جانب مشاريع البنية التحتية الضخمة والدعم المالي الدولي، يخلقان معاً بيئة مثالية لجذب الاستثمارات الأجنبية، مما يضع الصحراء المغربية على طريق أن تصبح محوراً اقتصادياً حيوياً في المنطقة..
حميد فايو، دكتور في الاقتصاد وأستاذ زائر