Saturday 1 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

منير لكماني: فاتورة المرض.. حين يختلط العلاج بالحساب

منير لكماني: فاتورة المرض.. حين يختلط العلاج بالحساب منير لكماني
لم تعد رحلة المريض إلى المصحة مجرد بحثٍ عن الشفاء، بل أصبحت تجربةً تتقاطع فيها الرعاية مع الحساب. فالورقة التي تُسلَّم في نهاية العلاج لم تعد مجرّد فاتورة، بل مرآةٌ تكشف موازين نظامٍ صحيٍّ يعيش توتراً بين الخدمة والتكلفة. وفي ظل تزايد الشكاوى حول كلفة العلاج، أصبح السؤال الملحّ: أين ينتهي ثمن الرعاية… وأين يبدأ ثمن السوق؟
 
تعريفة قديمة وزمن يتغيّر
أحد أبرز أسباب تضخم الفواتير هو الفجوة بين التعريفة الوطنية المرجعية (TNR) التي تعتمدها صناديق التأمين الإجباري عن المرض (AMO)، وبين الأسعار التي تطبّقها المصحات فعلياً. فالتعريفة المرجعية تحدد فقط سعر التعويض الذي يسترجعه المؤمن من الصندوق، وليست سعر الخدمة الذي تحدده المصحة، مما يجعل الفارق بينهما عبئاً على جيب المريض.
هذه التعريفة لم تُحدَّث منذ سنوات، رغم تضخّم كلفة الموارد البشرية والمعدات الطبية. لذلك، أصبح تحديثها بشكل دوري أمراً أساسياً لإعادة التوازن بين ما تتحمله الأسر وما يعوضه التأمين.
 
عرض متركز ومنافسة محدودة
القطاع الصحي الخاص يتمركز في خمس جهات كبرى تستحوذ على أغلب المصحات والأسرة، مما يقلل من المنافسة ويحد من تنوع الخيارات. في المناطق البعيدة، حيث العرض العمومي ضعيف، يجد المواطن نفسه مضطراً للجوء إلى أقرب مصحة مهما كانت الأسعار.
تقرير مجلس المنافسة لسنة 2022 نبّه إلى هذا التركّز، معتبراً أنه من أسباب ارتفاع الأسعار واختلال ميزان التفاوض بين المواطن والمؤسسة. ودعا إلى توسيع الاستثمار في الجهات الأقل استفادة لتقريب الخدمة وضبط الكلفة.
 
القانون واضح… والتطبيق متباين
القانون رقم 65-00 ينظّم التأمين الإجباري ويمنح الوكالة الوطنية للتأمين الصحي (ANAM) صلاحية تحديد التعريفات المرجعية ومراقبة الاتفاقيات مع مقدّمي الخدمات. كما ينظم القانون 131-13 ممارسة الطب في القطاع الخاص. غير أن بعض المصحات لم توقّع اتفاقيات حديثة، فباتت تعتمد تسعيرها الخاص.
أما بخصوص الشيكات أو الودائع، فقد أكدت التصريحات الرسمية عدم قانونيتها، ومع ذلك ما زالت تُطلب في بعض الحالات، خاصة قبل العمليات أو في أقسام الطوارئ، مما يثير نقاشاً مستمراً حول حماية حقوق المريض وتطبيق القانون على أرض الواقع.
 
فاتورة تتضخم بهدوء
كلفة العلاج لا ترتفع فجأة، بل تتسع عبر التفاصيل الصغيرة: تحاليل مكمّلة، خدمات إضافية، أو إقامة أطول من المتوقع. كما أن الأدوية داخل المصحات تُسعّر أحياناً بأعلى من الصيدليات رغم وجود توصيات رسمية لمحاذاة الأسعار العمومية.
بهذا الشكل، يتحول العلاج إلى سلسلة من البنود التي يصعب على المريض متابعتها أو مناقشتها وهو في وضع صحي هش، مما يجعل الحاجة إلى فوترة واضحة ومفهومة مطلباً أساسياً للثقة والشفافية.
 
انعكاس اجتماعي واقتصادي
ارتفاع الكلفة الطبية لا يضغط فقط على الأسر، بل يؤثر في الاقتصاد الوطني ككل. فكل زيادة في أسعار العلاج تُضعف القدرة الشرائية وتزيد من نفقات صناديق التأمين، مما يخلق دوامة مالية تضرب أساس التوازن الاجتماعي. كثير من العائلات تضطر إلى الاقتراض أو تأجيل العلاج، فيتحول المرض من أزمة صحية إلى عبءٍ اجتماعي واقتصادي طويل الأمد.
 
توازن مطلوب بين الخدمة والاستدامة
الفاعلون في القطاع الخاص يشيرون إلى أن الكلفة الحقيقية للرعاية ارتفعت بفعل تطور المعدات والتزامات الجودة، وأن التعريفة المرجعية لم تواكب ذلك. وهو رأي يجد صداه في الواقع، لكنه يفتح الباب أمام ضرورة تحديثٍ تشاركي للتعريفات، يوازن بين استدامة الاستثمار وحق المواطن في علاج ميسّر وواضح الكلفة.
 
مفاتيح الإصلاح الممكن
تقارير المؤسسات الرقابية توصي بخطواتٍ واقعية، منها:
1. تحيين دوري للتعريفة المرجعية كل سنتين وفق مؤشرات الكلفة الطبية.
2. تسليم تقديرٍ مكتوب للمريض قبل القبول يوضح الكلفة الإجمالية والتعويض المتوقع.
3. فوترة إلكترونية موحّدة وواضحة البنود.
4. تحفيز الاستثمار الصحي خارج المدن الكبرى لخلق منافسة عادلة.
 
المواطن ركيزة الإصلاح
من حق المريض أن يعرف مسبقاً ما سيؤدي وما سيعوض. عليه أن يطلب عرضاً مكتوباً، ويحتفظ بفواتيره، ويبلّغ عن أي ممارسة غير مفهومة عبر القنوات الرسمية. فالإصلاح لا يقوم بالقوانين وحدها، بل بالوعي الذي يحمي الحق في المعلومة والكرامة.
 
قضية الفاتورة ليست مجرد حسابٍ مالي، بل مرآة لعلاقة الثقة بين المواطن ومؤسسة العلاج. حين تُحدَّث التعريفات وتُوضَّح الأسعار ويُفعَّل التواصل، تستعيد المنظومة توازنها بين واجب الرعاية وواقع التكلفة.
ويبقى السؤال معلقاً: هل يمكن أن يصبح الحق في العلاج واضح السعر، مثل وضوح الحاجة إليه؟