هي الفنانة، والمسرحية، والمبدعة، والمشخصة، سليمة بنمومن أو باختصار الأستاذة، وهي أستاذة بحق، أستاذة فوق الخشبة وأستاذة أمام وخلف الكاميرا، وأستاذة أمام طلبتها في المعهد. آخر دور شاهدتها فيه، هو دور الصديقة الحميمة للبطلة في فيلم ''شذرات'' للمخرجين جنان فاتن محمدي، وعبد الإله زيراط، هو دور ثانوي، لكنه يشكل بالنسبة لي مناسبة متفردة للاستمتاع بأداء هذه الفنانة، ليس في هذا العمل فقط بل في كل عمل تشارك فيه.
سليمة بنمومن تُجسّد نموذجا لتداخل الموهبة الفطرية مع التكوين الأكاديمي المنهجي، كما تشكّل خلفيتها المسرحية مرتكزا يساعدها على الاحاطة بالشخصيات التي تؤديها من خلال التعمق في أبعادها وتفاصيلها، ويصبح حضورها أمام الكاميرا محكوما بوعي علمي عملي يُمكِّنها من بناء علاقة مُحكمة مع الجسد والصوت، بوصفهما أداتين دلاليتين، لا مجرد وسائل تقنية للتعبير، فهي تمتلك قدرة متميزة على التحكم في الإيقاع الجسدي، ونبرة الصوت، وتوزيع الطاقة الحركية داخل الكادر السينمائي بحيث لا تتجاوز حدود الشخصية المؤداة، وفي نفس الوقت لا تنسحب إلى أداء ممسرح مصطنع زائد عن اللزوم. عفويتها استثنائية في التشخيص، لكنها تبقى عفوية مُحكمة ببناء مدروس بعيد عن الارتجال العشوائي.
لاحظت مرارا أن جل مشاعرها المرتبطة بالشخصيات تُولدها عبر ميكانيزمات داخلية، دون الارتكان إلى تفجير انفعالي مباشر مبالغ فيه - كما يفعل جل الممثلين لدينا - ما ينسجم مع تقاليد الأداء الواقعي المدروس، ويُحيل أكاديميا إلى مدارس التشخيص التي تعتمد على الذاكرة الانفعالية وأعني هنا مدرسة التمثيل المنهجي (Method Acting)، سيسألني أحدهم وهل اكتشفت كل هذه المهارات في بضع أدوار أدتها هذه الممثلة هنا وهناك؟ سأجيبه نعم بل أكثر من هذا قد تُكشَف لك مهارة الممثل واحترافيته من خلال حركة واحدة فقط يقوم بها أمامك، بل قد تظهر لك موهبته في صمته فقط، أو مجرد إيماءة واحدة يقوم بها.
على كلٍّ، ما يثيرني حقيقة في هذه المبدعة ويجعلني أستغرب هو كيف لفنان بهذه الإمكانات الجمالية والتقنية، وهذه الموهبة والاحترافية الاستثنائية أن تبقى مشاركته الفنية محدودة، وهنا لا أتكلم عن المسرح بل عن السينما تحديدا، فمنذ مشاركتها في فيلم ''نساء ونساء'' لسعد الشرايبي سنة 1998، الى اليوم، لم تشارك إلا في بضع اعمال سينمائية قليلة جدا، لا تتعدى ستة أو سبعة إن لم أكن مخطئا، فأين الخلل إذاً؟ ومن نُسائل في هذه الحالة؟!!