Thursday 16 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

زكية لعروسي: حمامة المغرب للسلام.. بين الجغرافيا والسيادة

زكية لعروسي: حمامة المغرب للسلام.. بين الجغرافيا والسيادة زكية لعروسي
السلام في الجغرافيا العربية ليس دائما فضيلة، أحيانا يكون مغامرة محسوبة، وأحيانا أخرى فخا مزخرفا بشعارات الأخوة.
المغرب، وهو يطل على التاريخ من نافذة الكبرياء، يعرف أكثر من غيره أن حسن النية وحده لا يكفي في محيط تتكاثر فيه الأوهام مثل الشوك حول وردة الحقيقة.
منذ عقود والمغرب يعيش جوارا صعبا مع جار حشر بجانبه جغرافيا لا وجدانيا. جار يقرأ الود بعين الشك، والدعوة إلى الحوار على أنها إستجداء. لذلك يتسلل السؤال في العقول كريح شاردة في ليل مثقل بالريبة: هل للمغرب أن يرسل يوما حمامة سلام نحو الجارة دون أن تُؤكل؟
السلام الحقيقي ليس أن تفتح الأبواب لكل من يطرق الباب، بل أن تعرف من يقف خلفه ولماذا جاء. فالمغرب لا يمكنه أن يرسل سلاما منزوع الحراسة، ولا أن يطلق حمامة بيضاء في سماء ملبدة بالغبار، دون أن يدرك أن هناك من لا يرى في البياض إلا لحما صالحا للافتراس.
المغرب لا يبحث عن خصام، لكنه لا يقبل أن يكون ملعبا لأوهام الآخرين. لقد فهم أن الكرامة لا تفاوض، وأن التاريخ لا يكتب بالبيانات بل بالمواقف. هو لا يحتاج إلى وساطة ليقول إنه يريد السلام، لأن السلام في عقله ليس نغمة عاطفية، بل جزء من هندسة الوعي المغربي الذي يوازن بين اللين والصرامة، بين الصبر والردع، بين الكبرياء والتسامح.
ليس هذا سؤالا سياسيا مجردا، بل سؤال وجودي في جغرافيا فرضت عليه كما يفرض القدر على من لا يختاره. بين المغرب والجزائر تاريخ من سوء الفهم تراكم حتى صار جدارا من الغبار يحجب الرؤية ويخنق المنطق. في هذا الركن من العالم، السلام امتحان للذاكرة، اختبار للقوة، ومرايا للضمير. فكلما مد المغرب يده وجد أمامه جارا يتوجس من الظل ويخاف الضوء، يقرأ المبادرات بعين الريبة ويستقبل الطيبة كتهديد. كأن قدر المغرب أن يجاور من لا يفهم الرموز، من يرى في الحمامة وجبة لا رسالة، وفي البياض ضعفا لا مجدا.
ومع ذلك، يصر المغرب أن يظل شاهقا مثل الأطلس، لا تهزه الرياح العابرة ولا تستدرجه المناكفات الصغيرة. يمد يده لا تواضعا ولا خوفا، بل لأن منطق الملوك أرفع من منطق الصغار. فحين يصدر السلام من القوة يصبح فعل سيادة، لا تنازلا.
المغرب يدرك أن في السياسة كما في الوجود، هناك من لا يحتمل الضوء لأن عينيه لم تتعلم الرؤية. لذلك فحمامته إن أرسلها يوما لن تكون طريدة بل فكرة. فكرة تحلق فوق الكراهية وترى العالم من علو الوعي لا من قاع الضجيج.
السلام المغربي ليس إنحناء، بل إختيار فلسفي. إنه فعل عقل هادئ لا يحتاج إلى تصفيق ولا يخاف من العواء. فالمغرب حين يصمت يفكر، وحين يبتسم يزن اللحظة بميزان التاريخ. الجغرافيا قد خانته بالجوار، لكن التاريخ أنصفه بالبقاء.
قد يحاول البعض أن يأكل الحمامة لكنه لن يهضم معناها. لأن سلام المغرب ليس خبزا بل رمزا. خرج من طين الملوك، ونسج أجنحته من حكمة الأجداد. يطير لا ليستعطف بل ليعلن أن من يعرف قدره لا يحتاج إلى اعتراف من أحد.
وإذا ظل الجار أسير أوهامه، فليأكل الرموز كما يشاء، فالحقيقة ستبقى عصية على الهضم. أما المغرب فسيبقى واقفا، صامتا حين يجب، صارخا حين يلزم، حاملا حمامة السلام في يد وفي الأخرى مفتاح القوة.
فهل يأتي يوم ترسل فيه الرباط حمامة سلام فتستقبل كما يستقبل المطر بعد القحط؟ أم أن الجارة ستظل تأكل الرموز لأنها لم تتعلم بعد كيف تتذوق المعنى؟
ربما وحده الزمن سيجيب، لكنه زمن يعرف أن المغرب لا يرسل حماماته عبثا، بل حين يقرر أن يختبر الضمير الإنساني.