Thursday 16 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

محمد براو: نغمة "الملكية البرلمانية".. من حلم سياسي إلى أداة في التوظيف المشبوه

محمد براو: نغمة "الملكية البرلمانية".. من حلم سياسي إلى أداة في التوظيف المشبوه محمد براو
في ظل الوقائع المستجدة التي يعرفها المشهد السياسي والاجتماعي المغربي، برزت مجددا في الأيام الأخيرة دعوات متكررة داخل بعض الأوساط الأكاديمية والإعلامية والحزبية تطالب بالانتقال الفوري نحو "ملكية برلمانية" على النمط الأوروبي، معتبرة إياها الحل المثالي والجاهز لتجاوز كل اختلالات الواقع المغربي.
ومن موقعي كباحث أكاديمي في القانون العام والعلوم السياسية، وممارس ميداني في قضايا الحكامة والإصلاح المؤسساتي، أرى أن هذه النغمة الخطابية، رغم طابعها "الحالم"، تستدعي نقاشًا هادئًا ومسؤولًا، نظرًا لخطورة تبعاتها وتقاطعاتها مع تحركات خارجية إعلامية وسياسية لها أهداف لا تخفى على كل ملاحظ لبيب.
دعوات متعجلة ومسارات مُلتبسة
ما يدفعني إلى رفع الصوت اليوم، ليس فقط مضمون هذه الدعوات التي تتبنى الملكية البرلمانية كحل شامل، بل تزامنها وتناغمها اللافت مع حملة إعلامية خارجية قادتها صحيفة لوموند الفرنسية بين 24 و29 غشت 2025، في محاولة لصياغة سردية توحي بأن المغرب يعيش "أزمة نظام" تستدعي قطيعة جذرية.
اللغة المستعملة، والانتقائية في عرض الوقائع، والتحليل الموجه الذي تضمنته مقالات لوموند، كلها تؤشر على خلفيات أيديولوجية تتجاوز مجرد الرغبة في الإصلاح. واللافت أن بعض الأصوات المحلية تبنّت هذا الطرح بسرعة، واستثمرت احتجاجات اجتماعية قائمة، بل واستغلت التسامح الأمني معها، لتقديم نفسها كبديل سياسي، متجاوزة النقد البنّاء إلى خطاب القطيعة والتحريض.
من "الملكية البرلمانية" إلى "القفز في الهواء".
كنت قد عبّرت عن رأيي من هذه الدعوات في تدوينة نشرتها على صفحتي الفيسبوكية يوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025، جاء فيها:
"من ينادي بـ"الملكية البرلمانية" من منظور أكاديمي حالم، كمن يدس السم في الدسم، كمن ينادي بالقفز في الهواء ! لأن من يردد هذه المعزوفة كمن يطالب بالغناء قبل الموسيقى! القضية سياقية تستدعي تدافعاً تدريجياً وتفاعلاً ذكياً ضمن مسار تاريخي ومقتضيات واقع اجتماعي وثقافي. راجعوا أوراقكم!"
هذه الكلمات، كما هو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، ليست رفضًا للإصلاح في ذاته، بل رفضًا للتبسيط، للنقل الميكانيكي، وللتصورات المستوردة التي لا تراعي الخصوصية المغربية، ولا المصالح الوطنية العليا. كما لا تعترف ضمنيا بالديناميات التي عرفها -مازال- مسار نظامنا الدستوري والسياسي.
* خصوصية المسار المغربي 
منذ أكثر من عقدين، والمغرب يُراكم بتأنٍّ إصلاحات سياسية ومؤسساتية كبرى، قادها جلالة الملك محمد السادس، بدءًا من هيئة الإنصاف والمصالحة، ومدونة الأسرة، ووصولًا إلى دستور 2011، والسياسة الإفريقية، ومشاريع البنية التحتية الكبرى.
هذا التراكم لم يكن وليد ضغط خارجي، بل ثمرة مسار إصلاحي داخلي نابع من رؤية سيادية تراعي خصوصية البلاد وترتكز على المرجعيات الوطنية، وليس على وصفات جاهزة أو نماذج معلبة.
وقد بيّنت في مقالات سابقة نشرتها بشكل متزامن، خلال الفترة المتراوحة بين 25 غشت و2 شتنبر 2025، ردًّا على جميع الحلقات الستة لسلسلة   لوموند، يمكن الرجوع إليها بمراجعة أرشيف جريدة أنفاس بريس الموقرة خلال تلك الفترة، أن المغرب لا يعيش "نهاية عهد" كما روجت لوموند، بل "بداية مرحلة جديدة" تُعيد ترتيب الأولويات، وتُحدّث مفهوم السلطة، وتوسّع قاعدة المشاركة السياسية دون المساس بتوازنات النظام.
مرجعية "لوموند" وتاريخ من الانتقائية
في مقالاتها الشهيرة، لجأت صحيفة  لوموند إلى لغة درامية، ووقعت في انتقائية مقلقة. فقد ضخّمت بعض الاختلالات الاجتماعية والسياسية، وتجاهلت أو قللت من شأن عدد كبير من الإصلاحات، ما يكشف عن تحامل غير بريء.
وقد كشفت في تحليلي النقدي لتلك الحملة عن مؤشرات واضحة على توجيه سياسي وأيديولوجي، يروم الدفع بالمغرب في اتجاه قطيعة غير محسوبة، تضعف استقراره وتُربك مساره الإصلاحي وصولا إلى إضعاف تموقعه كدولة صاعدة في المشهد الإقليمي والدولي على أمل تقويض حضوره وقضم مكاسبه الجيوسياسية المشهود بها.
الخطاب الداخلي وسؤال التوظيف المشبوه
الأخطر من الحملة الخارجية، هو ما يشبه التناغم الداخلي معها، حيث برزت بعض الأصوات الأكاديمية والسياسية، التي تطرح الملكية البرلمانية كحل فوري جاهز، دون أن تراعي شروط السياق، أو تأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى أو طبيعة المجتمع.
هذه الدعوات في كثير من الأحيان، لا تتحرك بمنأى عن علاقات أيديولوجية تربطها بجهات خارجية أو تيارات حزبية داخلية مأزومة، تستثمر الأزمات لتحقيق مكاسب فئوية، ولو على حساب الوطن.
وهذا الخطاب – بلبوس أكاديمي أحيانًا، وبأقنعة مدنية أحيانًا أخرى – لا يخلو من تبسيط وافتقار للرؤية، إلا أنه يتسم بخطورة مؤكدة، لأنه يغذي:
• نزعة القطيعة بدل الإصلاح التدريجي،
• ويؤجج الانقسام بدل التماسك،
• ويُضعف ثقة المواطن في المؤسسات،
• دون أن يقدم بدائل واقعية أو نموذجًا بديلًا قابلًا للتطبيق.
لا للنقل الأعمى ولا للضغط الخارجي
الخطير في هذا الخطاب، ليس فقط سطحيتُه، بل استعداده – بوعي أو بدون وعي – للتناغم مع حملات خارجية، واستخدام الاحتجاجات كأداة لفرض تصورات غير ناضجة ولا مدعومة بتوافق وطني.
إن الديمقراطية لا تُبنى بالشعارات الرنانة، ولا بالضغط الإعلامي، ولا بترهيب الرأي العام، بل تُبنى على أسس متينة: مؤسسات حزبية ذات مصداقية، قضاء مستقل، إعلام مسؤول، ثقافة مدنية متجذرة، وإدارة فعالة.
أما الدعوة إلى "الملكية البرلمانية" في هذا الظرف بالذات، فهي أقرب إلى التسرع السياسي في أحسن الأحوال، وإلى المغامرة غير محسوبة العواقب في أسوئها، لأنها تتغافل عن حجم التحديات، وتُقحم المغرب في مسار لا تتوفر له الشروط اللازمة.
من أجل إصلاح سيادي، واقعي، ومتدرج
لا أحد ينكر وجود اختلالات حقيقية: ضعف الأحزاب، عزوف سياسي، تفاوتات اجتماعية، وبطء في تنزيل بعض الإصلاحات. ولكن، في المقابل، يمتلك المغرب من التراكمات، والشرعية، والإرادة، ما يمكّنه من بناء نموذجه السياسي الخاص، دون استعجال ولا ارتهان للخارج.
ومن المهم التذكير هنا بأن النظام الدستوري والسياسي الحالي، المنبثق عن دستور 2011، لم يتجاوز بعد عقدًا ونصف من عمره، وهو زمن قصير في عمر النظم السياسية. هذا النظام، بطبيعته المركبة، يتيح نوعًا من التعايش بين منطق "الملكية البرلمانية" و"الملكية الرئاسية" في إطار هجين ومُبتكر، يستند إلى ضرب من ضروب التوازن بين السلطتين التنفيذية والرمزية.
وحبذا لو تم تفعيل هذا النموذج كما هو منصوص عليه، بروح من المسؤولية، وبنخبة سياسية ناضجة وقادرة على مواكبة هذا التحول الدستوري، لكان بالإمكان الوصول إلى نتائج أكثر انسجامًا واستقرارًا دون الحاجة إلى القفز في المجهول.
إن الدعوة إلى إصلاح متدرج لا تعني الدفاع عن الوضع القائم، بل تعني التمسك بمسار إصلاحي وطني، تراكمي، واقعي، ينطلق من الأرضية المؤسساتية الموجودة، ويعالج الأعطاب القائمة دون نسف البنية بأكملها.
ختاما: منطق الاستبصار بدل منطق الاستعجال
إن إصلاح النظام السياسي المغربي لا يمكن أن يتم تحت الضغط الخارجي، أو تحت وطأة شعارات أيديولوجية مأزومة، بل يحتاج إلى:
• وحدة وطنية صادقة،
• حوار داخلي عقلاني،
• تدرج حكيم في الإصلاح،
• تفادي تحويل الاحتجاجات الاجتماعية إلى وقود لمعركة حزبية أو إعلامية ضيقة.
وختامًا، أدعو بكل احترام ووضوح، من يرفع شعار "الملكية البرلمانية" اليوم والآن، ألا يسقط في فخ التوظيف السياسي أو الأيديولوجي، وأن يدرك أن المغرب ليس دولة استيراد لنماذج الآخرين، بل دولة منشأ، وبلد قادر على رسم مساره بنفسه. وهذه الفكرة ثابتة من ثوابتي الإيمانية والمعرفية، دافعت عنها بشدة وصرامة في مقالاتي ردا على جريدة لوموند وأراني الآن، ملزما بالدفاع عنها بنفس الشدة والصرامة قبالة كل من نسج على منوال جريدة لوموند أو تقفى أثرها أو ردد صداها من حيث يدري أو لا يدري، بحسن أو بسوء نية.
الرسالة الجوهرية: ليس بالتغاضي عن الواقع، ولا باجترار مفاهيم براقة مستوردة، نحقق الإصلاح ونُحرز التقدم، بل بفهم هذا الواقع من الداخل، والتعاطي معه بنزاهة ووضوح وبصيرة، دون التفريط في سيادتنا الفكرية والسياسية. 

مقولة على الهامش
"الحكمة ليست في أن تكون أول من يخطو، بل في أن تعرف متى وكيف تخطو."   أرسطو
محمد براو، باحث وخبير دولي في الحكامة ومكافحة الفساد