لم يبدأ الاحتجاج في المغرب اليوم، ولم تكنا لموجة الاحتجاجية الراهنة سوى فصل جديد من مسلسل طويل من الاحتجاجات الاجتماعية التي عاشها المغرب، على فترات متباعدة، منذ جيل الاستقلال إلى «جيل «Z
وبهذا المعنى، فالاحتجاج في حد ذاته هو أحد المؤشرات الحيوية للديمقراطية، إذ لا وجود لحياة ديمقراطية من دون فضاء يسمح بالتعبير عن الاختلاف والرفض، ويتيح مساءلة السلطة العمومية ومطالبتها بالإصلاح. ولعل هذا ما يفسر أن المغاربة أصبحوا في لحظة ما يخرجون للاحتجاج بمعدل يتراوح بين 13 ألف و15 ألف احتجاج في السنة.
وتبعا لذلك، فإن ما نعيشه اليوم من احتجاج، رغم اللغة الجديدة والأدوات المغايرة والأساليب غير المسبوقة في التعبئة والتنظيم، يعتبر امتدادا لمسار تراكمي طويل من التفاعل بين السلطات والمجتمع، بين مطالب الشارع وإيقاع التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة وتحديات الاستقرار وحفظ الأمن العام.
وإذا كان الاحتجاج اليوم مؤشّرا دالا على تحوّل في بنية الوعي لدى جيل Z، فإن فهم هذا التحول يقتضي النظر إلى السياق الإقليمي والدولي
الأوسع، فضلا عن السياق المحلي، إذ أن شبكات التواصل الاجتماعي جعلت الحدود السياسية شبه متلاشية، فصارت العدوى الرمزية تنتقل بسرعة بين المدن والبلدان، ويصبح الاحتجاج مشتركًا والعناوين واحدة: الكرامة، العدالة، والحق في الأمل.
ومن هنا، يتعين علينا إبداء مجموعة من الملاحظات لفهم هذا الاحتجاج، من حيث دوافعه وآلياته وخطابه ورموزه، بما يساعد على استيعاب العلاقات المعقدة التي قد يخفيها في ثناياه:
أولا :إذا كان المغاربة يعرفون جيدا أن الاحتجاج ليس غريبا عن تاريخهم، فإنهم يدركون أيضا، أن هناك حدودا لا يجوز المساس بها. فالمؤسسات الوطنية، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية، تشكل عمود الدولة وضامن استقرارها. ومن هنا، يبدو واضحا أن هذا التركيز الواضح في التشكيك في المؤسسات الأمنية وشيطنتها، ليست رصاصات طائشة أو فارغة، بل إنها رصاصات مسددة بإتقان لزعزعة الثقة بين الدولة والمجتمع، ودفع الشباب إلى الاصطدام بالمؤسسات بدل إطلاق حوار وطني يعود بالنفع على الجميع. ذلك أن اللافت للانتباه أن كثيرا من الفيديوهات التي يتم الترويج لها خارجيا تُحذف لاحقا من المنصات الأصلية لاكتشاف حقيقتها كمقاطع فيديو قديمة أو مفبركة أو مقتطعة من مشاهد تمثيلية، وهو ما يعزز فرضية وجود أجندة إعلامية مقنَّعة تريد النيل من صورة المغرب ومن أجهزته الأمنية ومؤسساته السيادية، ومن ذلك ما نشرته اليمنية الأصولية «توكل كرمان»، الدائرة في فلك الإخوان المسلمين، إذ لم تتورع عن الكذب الصريح بخصوص مطالب المحتجين وصورت الشباب كانقلابيين يحيطون بالقصر الملكي !..
ثانيا: الأغلبية الساحقة من المغاربة، تميز بين الحق المشروع في الاحتجاج للضغط على السلطة العمومية لتلبية مطلب ما، وبين التخريب الآثم والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وزرع الفوضى في الفضاء العام.
ثانيا: الأغلبية الساحقة من المغاربة، تميز بين الحق المشروع في الاحتجاج للضغط على السلطة العمومية لتلبية مطلب ما، وبين التخريب الآثم والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وزرع الفوضى في الفضاء العام.
ثالثا: من متغيرات الاحتجاج التي وقف عليها الملاحظات أن جيلZ يمتلك وعيا فوريا لا وسائط فيه. فهو يرى الإقصاء في لحظته، فيرد على ذلك في اللحظة نفسها، بالوسائل الرقمية التي لديه خبرة في التعامل معها. غير أنه جيل يفتقد، كما هو واضح، إلى قيادات أو إطارات يمكنها أن تنظم الاحتجاج في الشارع، بمطالب اجتماعية ومشاريع قابلة للتفاوض وليس طرح مطالب حالمة. فالاحتجاجات التي لا يمكن إنكار مشروعيتها، كما لا يمكن إنكار أنها نابعة من سخط شعبي حقيقي، تظل بلا وجهة سياسية واضحة في ظل «قيادة ملثمة ومختفية»، لأنّها تنبع من الفضاء الرقمي أكثر مما تنبع من الواقع التنظيمي. ولهذا يمكن القول إنها حركة من دون رأس، وموجة بلا مركز، وهذا ما يجعلها مثيرة للتساؤل لدى الدولة والمجتمع معا. والسؤال هو من سيحاور من؟ وهل النزول إلى الشارع هو أفق هذا الجيل، أم أن الإصلاح هو المطلب الواقعي؟ وكيف يتم التفاعل مع مطالب رفعتها جهات خفية لا تريد أن تظهر للعلن؟
رابعا: أصبح حراك جيلZ مادة إعلامية دسمة في بعض المنابر الإعلامية الأجنبية، كأن المغرب على موعد مع «ثورة المرضى والجوعى والمعطلين والأميين والناقمين». ذلك أن بعض القوى الإعلامية، خاصة في فرنسا والجزائر، أبدت اهتماما موجها ومبالغا فيه بالاحتجاجات في المغرب، وكأنها تنتظر أن تتحول من شرارة اجتماعية محدودة إلى أزمة سياسية شاملة تأتي على الأخضر واليابس. الصحف والقنوات التابعة لتلك الدول تتحدث بلغة «الاشتعال» و«الانفجار» و«الاحتقان الخطير»، بينما الواقع الميداني يُظهر أن شباب «جيلZ» يؤكدون بالصوت العالي أن احتجاجاتهم سلمية، وأن لا علاقة لهم بأعمال العنف والتخريب والبلطجة، كما أن عددهم محدود وقليل، ويتحركون غالبا في فضاءات رقمية أكثر مما يحتلون الساحات. ومع ذلك، يجري إعلاميا تضخيم المشهد إلى أقصى الحدود في محاولة لإظهار المغرب وكأنه على شفا انهيار سياسي، وهو تضخيم يطرح أكثر من علامة استفهام خاصة وأن أحداثا ومظاهرات دامية أفظع من تلك التي حدثت في المغرب، عاشتها دول منها: فرنسا وإسبانيا وكوريا وألمانيا، لكن لم تحظ بتلك التغطيات الإعلامية الأجنبية المكثفة.
خامسا: هل يمكن التسليم بأن منصة «ديسكورد» (Discord) التي تحولت إلى فضاء رئيسي لتداول مسارات التعبئة الافتراضية، محصنة ضد الاختراق الأجنبي الممنهج؟ وهل يمكن اتخاذ قرارات حاسمة بخصوص وضع اجتماعي بحفنة من الأشباح، ذلك أن المعلومات الأولية تشير إلى احتمال تدخل «أياد آثمة» لتوجيه النقاش وخوارزميات المنصة حتى يتم التلاعب بالبيانات وتضخيم المحتوى الاحتجاجي في المغرب، إذ تدفع به بكل ما أوتيت من أحقاد إلى صدارة الواجهات الإعلامية العالمية، مما يثير الشكوك حول نوايا بعض الجهات التي تستثمر في اضطراب المجتمعات الناشئة والفتية، بل في بعض الدول التي تعاني من عقدة كبيرة ومُركَّبة اسمها المغرب.
وعليه، لا بد من الوقوف بالمرصاد للجهات التي تحاول أن تحول «منصة جيل«Z إلى شارعٍ موازٍ للاحتجاج، تُدار فيه المعارك الرمزية، وتُصاغ فيه المواقف العامة على إيقاع «الترند». لكن الخطر الأكبر لا يكمن في سرعة الانتشار، بل في بطء الفهم: إذ يصبح الرأي المخدوم السريع «حقيقة جماعية»، ويتحوّل الاندفاع إلى «موقف وطني»، وتُستبدل الحجة بالهجوم، والنقاش بالوصم..
سادسا: لماذا اندلعت الاحتجاجات في هذا التوقيت بالضبط؟ ألا يخفي ذلك حسابات سياسية لا يمكن القفز عليه؟. فالمغرب يعيش اليوم لحظة حساسة تتعلق بملف الصحراء المغربية وبالنقاش الدائر داخل مجلس الأمن حول الحل السياسي النهائي لنزاع الصحراء «أدرج مجلس الأمن في أجندته لشهر أكتوبر مناقشة ملف الصحراء المغربية في ثلاث محطات رئيسية». إذ في مثل هذه اللحظات، يصبح كل توتر داخلي ورقة ضغط تستغلها الأطراف المعادية لتقويض صورة المغرب المستقرة. لهذا لم يكن مستغربا، حسب العديد من الملاحظين، أن تتزامن الاحتجاجات مع «تسخين الطعارج» من طرف خصوم المغرب لشن حملة تشكيكٍ منظمة تستهدف مؤسسات الدولة، وتُحاول تصويرها وكأنها فاقدة للشرعية أو عاجزة عن احتواء الغضب الشعبي.
نعم خرج شباب جيل Z المطالبة بالحق في الصحة والتعليم والشغل والكرامة، ومكافحة الفساد؛ وهي مطالب مشروعة، إذ ظل الفساد- وهذا ما خصصت له أسبوعية «الوطن الآن» على مر الأعوام أعدادا كثيرة- هو العقدة البنيوية القاصمة التي تمنع التحول الحقيقي نحو دولة المواطنة. كما أن قطاع التعليم يعيش متوالية من الأزمات التي حولته إلى قاعة انتظار خانقة يتعاقب عليها وزراء لتجريب المخططات الفاشلة. أما قطاع الصحة، وهو مطلب مركزي في الاحتجاجات، فيعرف انهيارا كبيرا حين تخلّت الدولة تدريجياً عن المستشفيات العمومية، تاركة المواطن في قبضة المصحات الخاصة. فيما صارت العدالة الاجتماعية شعارا للاستهلاك السياسي أكثر من كونها رؤية مجتمعية متكاملة، خاصة مع اتساع الفوارق وارتفاع ضغط الأسعار وضعف الأجور، رغم شعارات «الدولة الاجتماعية» وسياسات الدعم الاجتماعي!
لم نكتشف أعطابنا الاجتماعية مع جيل،Z الذي وُلد في زمن السرعة المطلقة والشاشات المفتوحة، علما أن هذا الجيل لم يولد من فراغ. ذلك أن الشباب حين يرى أن من يتعب لا يُكافأ على جهوده، ومن يفسد لا يُعاقب على فساده، تترسّخ لديه القناعة بأن النظام الاقتصادي والاجتماعي ظالم ويشجع على تعميق التفاوتات. لذلك فإن الغضب مشروع، لكن الخطورة تكمن في الجهة «أو الجهات» التي تسعى إلى تحويل هذا المطلب المشروع وتحويله إلى فوضى مقصودة ضد استقرار المجتمع والدولة. يريد هذا الجيل أن يرى مؤسسات بلاده خاضعة لمبدأ «المسؤولية والمحاسبة»، وإعلاما عموميا يعكس الواقع ولا يخفيه ويخدم المواطنةويقوم بترشيد النقاش العمومي بموضوعية وبلغة راقية، وسياسة تستوعب النقد ولا تُجرّمه. لكن في الوقت نفسه، على هذا الجيل أن يُدرك أن الإصلاح لا يُدار من الخارج، وأن الدفاع عن الحقوق لا يمكن أن يتحول إلى أداة لتقويض الوطن وتخريب ممتلكات المواطين. كما يتوجب عليه الفصل بين الرفض المشروع للإقصاء الاجتماعي، وبين الانجرار خلف من يسعى إلى نشر العدمية و«مسح السما بليكا» ونسف الثقة في المؤسسات الدستورية بالبلاد التي تبقى القناة المشروعة لتصريف الانتظارات وتلبية المطالب
هانحن نعيش سنة انتخابية، فما المانع إذن من أن يسارع الشباب للتسجيل باللوائح الانتخابية والانخراط في الأحزاب بكثافة حسب قناعات كل فرد، للاصطفاف المشروع دفاعا عن تجويد عيش كل المغاربة؟!
ذاك هو السؤال وتلك هي الإشكالية.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"