Thursday 2 October 2025
مجتمع

عبد الحميد جمور: بين البراءة الظاهرية وهندسة الغضب الخارجية.. قراءة في خلفيات احتجاجات جيل Z

عبد الحميد جمور: بين البراءة الظاهرية وهندسة الغضب الخارجية.. قراءة في خلفيات احتجاجات جيل Z عبد الحميد جمور ومشهد من أحداث الفوضى والشغب التي رافقت احتجاجات شباب "جيل Z"

بدايات رقمية محكمة: البروفايل الوهمي والخوارزمية كمنسق

في الصباح يخرج النداء: مدينة، مكان، ساعة. يوقع النداء حساب رقمي لا تاريخ ولا تجربة له، صورة رمزية غامضة، نشاطه الوحيد نشر دعوات وتصعيد عاطفي، وهذا النمط يتكرر، ليس باعتبار أنه "أسلوب جديد" فحسب، بل لأن البنية الرقمية نفسها تسهل تصنيع منابر اصطناعية (astroturfing) وتعطي انطباعا بوجود قاعدة شعبية، في حين أن الشبكة الحقيقية ضئيلة أو غائبة، ويمكن للقارئ أن يقف على حجتي ببحث بسيط في هذه الحملات المموهة بهذا الشكل ليقف على آثارَ تنسيق، وأنها استخدمت مرارا لخلق وهم تأييد واسع

الخوارزميات المنصبة على منصات التواصل لا تعرض المحتوى بموضوعية؛ بل تعطي أفضليات للمحتوى الذي يولد تفاعلا عاليا. والمحتوى العاطفي — خصوصا السلبي أو الصادم — يحقق تفاعلا أعلى، فيرتق إلى موجات أكبر من المشاهدين، وهنا أشير أن آليات التصنيف هذه تضخم المحتوى المشحون عاطفيا أحيانا بما يفوق إرادة المستخدمين أنفسهم، وهو ما يشرح كيف أن دعوات بسيطة قد تتحول، خلال ساعات، إلى ظاهرة مرئية ومسموعة على نطاق واسع أسئلة استنكارية لا بد من طرحها: هل كل هذه الحسابات الجديدة تعبر عن رفض حقيقي أم أنها تعمل كواجهات لعمليات تنسيق؟ من أين تأتي النصوص الجاهزة؟ ولماذا تختار أوعية رقمية غير سياسية (صفحات بيع، كراء، مجموعات محلية) بدلا من القنوات التنظيمية المعروفة؟

البعد النفسي: العدوى العاطفية وتأثير الصدى

المنطق النفسي بسيط وخطير: تكرار الرسائل والصور يولد إحساسا زائفا بأن "الجميع يفكر هكذا"، ما يعرف بتأثير الصدى او ما يصطلح عليه بـ (echo effect) أو "تأثير الطنين"، هي تجربة معروفة أظهرت أن العواطف تنتقل عبر الشبكات الاجتماعية — التعرض لمحتوى سلبي يولد سلوكا كلاميا وإدراكا سلبيا لدى المستخدمين — وهو ما يفسر سرعة انتشار سلوك احتجاجي متعطش للعاطفة.

عند جمع هذا التأثير مع النمط الميداني المتكرر والذي لن يختلف عليه إثنان (تجمع قبيل الغروب، إختيار محاور سير، تصعيد تدريجي من رشق إلى حرق إلى تخريب)، نصل إلى نتيجة مفادها أن الحالة النفسية للجماعة تستثمر: الظرف الزمني والمكاني يصنعان مناخا يعظم فرصة أن يتحول التعبير إلى عنف، وهذا ليس حتما إدانة للشباب، بل تفسير لآلية تجعل العاطفة تتحول إلى طاقة مدمرة عندما تدار من خارجها، وهذا ما يدفعنا لنتسائل: هل يملك منظمو الدعوات وعيا بمنطق العدوى العاطفية، أم أن الأمر نتاج سهو معرفي تستغله جهات أقدر على قراءة قواعد اللعبة الرقمية والنفسية؟

التكتيك الميداني: لماذا تستهدف البنوك والمؤسسات المنتخبة؟

المنهج الميداني الذي تلاحظه العيّنة التحقيقية هنا يكرر هدفا واحدا: تعطيل الروتين اليومي للمواطن من خلال ضرب نقاط الهروب الاقتصادية (فروع بنكية) واستهداف رموز التمثيل (مقار منتخبة)، وبتحليلنا لفعل تعطيل الفروع البنكية نفهم أنه فعل لا يسبب فقط خسائر مادية؛ بل الغاية منه ضرب ثقة المواطن في القدرة على الاستمرار المالي ويحدث انزعاجا يوميا يجعل الشك يتغذى ضد النظام العام. أمثلة معاصرة أظهرت استهداف بنوك كجزء من احتجاجات متنوعة في سياقات دولية، ما يجعله تكتيكًا ذا أثر ملموس. هذا التصاعد الممنهج يثير فرضية أن من يوجه المسارات لا يستهدف تحقيق مطلب محدد قابلا للقياس، بل يصمم حدثا يحكم عليه إعلاميا وسياسيا لاحقا: صور الجرحى، لقطات الحرق، بث مباشر للاندفاع نحو مؤسساتٍ مدنية، فمن من يخسر أكثر من هذا المسار؟ المواطن الذي تعطّلت معاملاته، أم من قد يستفيد من الصورة التي تنتج لاحقا خارج الحدود الوطنية؟

وسائل التواصل كمعركة سرد: صناعة الرواية بدل نقلها

التصوير المتكرر والإخراج الرقمي ليسا نقلا للواقع فحسب؛ بل صناعته، من يختار اللقطة، يعيد تشكيل الانطباع. في فضاء الاحتجاجات، تظهر الممارسات أن توثيق الضحية يسبق التحقق: لقطة مؤثرة تبث بسرعة، ثم تترسخ كحقيقة مؤثرة. هذا ما تسميه الدراسات «ساحة السرد الرقمي» حيث تنتصر اللحظة المصورة على الحقيقة المركبة، وهو ما تبث في دراسات مقارنة عن احتجاجات لبنان والهند وتونس وليبيا موثقة كيف استخدمت السردية البصرية لتأطير الأحداث وتوجيه الرأي العام. فهل تسمح لنا الصورة بأن نقرأ المشهد بكامله؟ أم أننا نرغم على قبول قصة قصيرة جدا تكرس انطباعا واحدا؟ الدرس الواضح: ليس كل احتجاج يتشابه، لكن آليات الاختراق—البروفايلات الوهمية، التصوير الانتقائي، الخوارزميات المضخمة—تتكرر في سياقات مختلفة.

ختاما

النتيجة الحاسمة: ما يبدو بريئا قد لا يكون كذلك. حين نقرأ تراكم المؤشرات — بروفايلات مشبوهة، خوارزميات تضخم العاطفة، توثيق بصري معاد تدويره، استهداف بنوك ومؤسسات — نصل إلى فرضية منطقية: هناك عناصر تستغل براءة الجيل ورواج الشبكات الرقمية لهندسة أحداث لا تخدم بالضرورة مطالب الإصلاح، هذا لا ينفي وجود غضب حقيقي ومطالب ، لكنه يفرض اليقظة: من يكتب النص؟ من يختار الصورة؟ ومن يسقط النص في فضاء لا يملكه المحتجون؟

أسئلة أخيرة أتركها للقارئ: هل نملك مناعة معرفية تسمح لنا بتمييز الحراك المشروع عن الاختراق؟ وهل نريد أن نبقى مجرد جمهور لصورة تصور لنا، أم فاعلين يديرون مطالبهم بعقلية إصلاحية؟