Tuesday 30 September 2025
كتاب الرأي

محمد براو: بين الكلمات والإشارات.. قراءة تأملية في بلاغ الأغلبية الحكومية حول احتجاجات الجيل Z

محمد براو: بين الكلمات والإشارات.. قراءة تأملية في بلاغ الأغلبية الحكومية حول احتجاجات الجيل Z محمد براو

في الوقت الذي بدأت فيه احتجاجات "الجيل Z" تأخذ صدىً اجتماعياً واسعاً، لم يتأخر بلاغ الأغلبية الحكومية في التعبير عن "تفهمه" لهذه التعبيرات الشبابية، متحدثاً بلغة الحوار، والاستماع، والانفتاح على النقاش العمومي.
لكن، في لحظة كهذه، لا تكفي البلاغات التوضيحية لطمأنة الشارع. فالكلمات، مهما كانت محسوبة، تُختبر بقدرتها على ملامسة جذر المشكلة، لا فقط تطويق تداعياتها.

تأتي هذه القراءة التأملية كمحاولة لاستكشاف دلالات البلاغ في سياق دينامية اجتماعية متجددة ومطالب شعبية متزايدة. كما تسعى إلى استشراف آفاق الإصلاح واستثمار اللحظة الراهنة لتجديد الثقة بين المواطن والمؤسسات، مع التأكيد على أهمية الحوار البناء والتفاعل الجاد مع تطلعات الشباب.

من الإنصات إلى الفعل: أي حدود للغة التفاعل؟

استعمال مفردات من قبيل "الإصغاء"، "الفهم"، "الاستجابة المسؤولة"، "الحوار" يعكس في ظاهره انتقالاً من التجاهل إلى الاعتراف. وهي خطوة لا يمكن إنكار رمزيتها، خصوصاً حين تصدر عن قيادة سياسية بدت، في محطات سابقة، بعيدة عن نبض الشارع.

لكنّ التفاعل الحقيقي لا يُقاس بنبرة البلاغ، بل بقدرته على فتح أوراش مراجعة عميقة. فالإنصات المطلوب هنا ليس سلوكاً ظرفياً لتخفيف الاحتقان، بل هو خيار استراتيجي، يُفضي إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، لا إلى احتوائها مؤقتاً.

جيل جديد بخطاب جديد: من الاعتراف الرمزي إلى التمكين الفعلي

لأول مرة، تعترف الأغلبية الحكومية صراحة بـ"الجيل Z" كمخاطب جماعي. وهذا تطور لافت، يحمل بعداً رمزياً مهماً، في بلدٍ كثيراً ما كانت فيه الفئات الشابة موضوعاً للخطاب، لا طرفاً فيه.

هذا الجيل، كما أظهرت الوقائع، لا يكتفي بالاحتجاج. إنه جيل رقمي، متواصل، واعٍ، منظم، ورافض للتسييس الكلاسيكي للمطالب. لا ينتظر وساطة حزبية، ولا يتقن لغة الشعارات المستهلكة. بل يبحث عن أثر ملموس، وعدالة مجالية، وكرامة معيشية، وحق في التموقع ضمن مشروع وطني مشترك.

وإذا كانت الحكومة قد التقطت هذه الإشارات، فإن السؤال الجوهري هو: هل تملك أدوات الإنصات المؤسساتي؟ وهل هي مستعدة لتجاوز الإيقاع البيروقراطي نحو فعل سياسي جديد؟

الصحة والحماية والتعليم: وعود الإصلاح أم استمرارية الإخفاق؟

استعاد البلاغ لغة الإصلاح الاجتماعي، مركّزاً على ما وصفه بـ"الأوراش المفتوحة" في الصحة، والحماية الاجتماعية، والتعليم. لكن، وللإنصاف، لم ينكر أحد وجود هذه الأوراش، بل إن أغلب الانتقادات الموجّهة للحكومة تتعلّق بتعثر وتيرة الإنجاز، وبفجوة الثقة بين الخطاب والنتائج.

فالمواطن الذي يحتج اليوم ليس ضد الإصلاح، بل ضد بطئه، وضد تقنيته الباردة، وضد شعوره المتكرر بأنّه خارج معادلة القرار والتنفيذ. وكل إصلاح لا يصل إلى المواطن في الزمن الاجتماعي الحقيقي، يبقى – مهما كانت نواياه – حبراً على ورق.

ماذا عن الأحزاب؟ صمت مريب في قلب العاصفة

بين كل ما قيل في البلاغ، غاب كلياً أي تقييم للوضع الحزبي أو للنقاش السياسي. لا حديث عن المعارضة، ولا عن العزوف، ولا عن ضعف التأطير السياسي، ولا حتى عن مسؤولية الحكومة في إعادة بناء الثقة.

وهذا الغياب مقلق، لأنه يؤكد ما يراه كثيرون: أن المشهد الحزبي يعيش أزمة تمثيلية بنيوية، وأن الفاعلين السياسيين ما زالوا يعتقدون أن البلاغات تُغني عن المراجعات، وأن التفاعل مع الشارع لا يعني بالضرورة مساءلة الذات.

إن تجديد العرض السياسي – سواء عبر الانتخابات أو عبر إعادة هيكلة الخطاب والممارسةلم يعد ترفاً، بل ضرورة وطنية. والمراهنة على الوقت فقط لإخماد التوترات قد تنجح مرة، لكنها لا تبني استقراراً طويل الأمد.

المؤسسة الملكية: بوصلة مستمرة لكنها لا تُعفي من المسؤولية

من الطبيعي أن تستند الحكومة إلى التوجيهات الملكية، باعتبارها الإطار الدستوري المرجعي. لكن، حين تُصبح كل الإجابات مرهونة حصرياً بالخطاب الملكي، تُطرح إشكالية غياب المبادرة السياسية لدى الفاعلين المنتخبين.

فالدستور منح هامشاً كبيراً للحكومة في التدبير، وكرّس دور الملكية كضامن وموجّه. لكن حين تغيب المبادرة السياسية من داخل الأغلبية، ويصبح كل شيء انتظاراً لتعليمات فوقية، نفقد جزءاً كبيراً من روح العمل السياسي: أي المسؤولية، والمحاسبة، والاقتراح.

ختاما: إصغاء متأخر خير من لا إصغاء... لكن هل هو كافٍ؟

البلاغ الأخير يعكس – بحدّه الأدنى – وعياً متأخراً بوجود خلل في العلاقة مع الشارع، ورغبة في إعادة فتح قنوات التواصل. لكنه يظل، حتى الآن، رداً بلاغياً أكثر منه تحولاً فعلياً في المنهج.

الاحتجاجات الأخيرة، بما تحمله من نضج وتنظيم وسلمية، ليست مشكلة، بل فرصة. فرصة لإعادة بناء ثقة حقيقية، لا فقط ترميم واجهة مهترئة. لكن استثمار هذه اللحظة يتطلب جرأة سياسية، وقرارات حقيقية، وخروجاً من منطق التسيير الإداري إلى أفق التأطير السياسي والمجتمعي الحقيقي.

وإلا، فإن الإنصات سيبقى شكلياً، والإصلاح خطاباً، والجيل الجديد... في انتظار سلطة حاكمة تعترف به كمواطن فاعل، لا كأزمة مؤقتة.