Friday 26 September 2025
جالية

أريري: افسحوا المجال للخبز الفنلندي للتسلل إلى العظام!

أريري: افسحوا المجال للخبز الفنلندي للتسلل إلى العظام! عبد الرحيم أريري يتناول خبز leipä Ruis بأحد مقاهي حي Metsälä، بهلسينكي
رغم أن فنلندا تصنف عالميا في أولى المراتب في مؤشر السعادة، فإن أتعس لحظة عند الفنلنديين ترتبط بزيارة رئيس دولة أجنبية لبلدهم، ليس تبرما من التدابير الأمنية المشددة المصاحبة للزيارة، بل لما قد يصدر عن الرئيس الضيف من انتقاد أو سخرية من المطبخ الفنلندي.
 
ألم يسبق للرئيس الفرنسي الراحل "جاك شيراك"، أن صرح بأن  فنلندا هي البلد الذي يضم "أسوأ مطبخ في العالم"؟!
ألم يسبق لرئيس وزراء إيطاليا السابق "بيرلوسكوني"، أن تهكم بالقول أنه "تحمل على مضض أكل الفنلنديين"، وزاد ساخرا بالقول:" كيف لشعب ( يقصد الفنلدنيين)، لا يعرف Prosciuto (أي لحم الخنزير المقدد)"؟!
 
هذه الصورة النمطية السلبية التي شاعت عالميا ضدهم، جعلت الفنلنديين "ينتفضون" لرد الاعتبار للمطبخ الفنلندي وللأكلات الفنلندية التي يعتبرونها "ثراثا لاماديا".
 
وامتثالا لعقيدتها الديمقراطية ورفض إملاء قرار ما أو فرض اختيار معين على الشعب، قامت سلطات فنلندا بإجراء مسح لرأي المواطنين وإنجاز استطلاعات هي أقرب "للاستفتاء"، لاختيار الأكلة الوطنية المفضلة أو الرمز الذي ينبغي أن يكون محط اتفاق جماعي كعنوان للمطبخ الفنلندي. 
 
وبالنظر لقيمة الرهان، حرصت فنلندا على نشر نتائج "الاستطلاع/الاستفتاء" في 2017، وهي السنة التي ترمز لمرور مائة سنة على استقلال البلد من الاحتلال الروسي. وكانت النتيجة أن الأغلبية الساحقة من الفنلنديين اختاروا خبز "Leipä Ruis" ( وهو خبز يهيء من طحين أسود)، ليكون هو "رمز الطبق الوطني الفنلندي".
 
اختيار أغلبية الفنلنديين لخبز "Leipä Ruis"، لم يأت لدواع صحية ( يمنح هذا الخبز سعرات حرارية لكن دون التأثير على زيادة وزن المرء)، بقدر ما يترجم الوفاء لهذا الخبز الذي لم يرافق الفنلنديين طوال 2000 سنة فحسب، بل وكان هذا الخبز هو أحد أسباب استمرار نسلهم، خاصة وأن الظروف الطبيعية القاسية لم تكن تساعد الفنلنديين على مر التاريخ لزراعة الحبوب أو الخضراوات، أو التوفر على مراعي لرعي الأبقار والأغنام. فالثلوج كانت تحاصر القرى والمراكز الحضرية لمدد طويلة، والبرد القارس كان يدوم شهورا عديدة، ولم يكن أمام الفنلنديين سوى قطف  ماتجود به الغابات من "توت الأرض" les baies وتجفيف لحم الرنة Le renne، واستعمال الطحين الأسود لصنع الخبز، بحكم أن هذا الطحين الأسود يسمح بتجفيف الخبز وتخزينه لعدة أسابيع بل وشهور، دون أن يفقد جودته.
 
الخبز الأسود يتم تحضيره من طرف النساء الفنلنديات بالخميرة البلدية بالأساس، ويتم تقديمه في المنازل مع البطاطا المطحونة (la purée)، للضيوف كعربون ضيافة، لدرجة أن الفنلندي قد يرفض تسلم أي هدية تقدم له، لكن من العيب - في أعراف المجتمع - رفض الخبز الأسود، لأن ذلك يعد إهانة للأجداد، من وجهة نظرهم.
 
اختيار "الخبز الأسود" Leipä Ruis، كرمز للطبق الفنلندي عام 2017، جعل الفنلنديين يدرجونه كل عام كمحور ثابث في احتفالات اليوم الثقافي الفنلندي المنظم يوم 28 فبراير. وهو اليوم الثقافي المعروف باسم kalevala، نسبة إلى الملحمة الفنلندية القومية المكونة من 22.795 بيتا شعريا، التي جمعها الطبيب واللغوي "إلياس لونروت" Elias lönnrot ونشرها يوم 28 فبراير 1835 للتغني بأمجاد الفنلنديين عبر التاريخ من خلال أساطير تمتد من خلق العالم إلى دخول المسيحية إلى فنلندا.
 
اليوم استعاد الفنلنديون ثقتهم في مطبخهم، وأصبحوا يواجهون كل رئيس أجنبي، يحل بالعاصمة هلسينكي، بشعار:" افسح المجال للخبز الفنلندي الأسود للتسلل إلى عظامك"!