Tuesday 23 September 2025
كتاب الرأي

سعيد الكحل: متى نقطع مع مستشفيات الموت والإهمال؟

سعيد الكحل: متى نقطع مع مستشفيات الموت والإهمال؟ سعيد الكحل

للصبر حدود.

لا غرو أن خروج المواطنات والمواطنين للاحتجاج على انعدام أو تردي الخدمات الصحية بعدد من المدن المغربية لم يكن للنزهة بقدر ما هو تعبير عن الشعور بالحـﯕرة والرفض القاطع لها. إن الصبر على الأوضاع المزرية للمستشفيات والمراكز الصحية له حدود. إذ لم يعد المواطنون يتحملون الإهانات والمنع من دخول المستشفيات من طرف "حراس الأمن" الذين صاروا الآمر والناهي في المؤسسات الصحية العمومية خلافا للمصحات الخاصة التي ينضبط فيها الحراس لمهام الحراسة وتوفير الأمن دون تجاوزها إلى مهام الإدارة (الاستقبال والتوجيه) ومهام الأطقم الطبية. كما لم يعودوا يقبلون سلوكات الابتزاز والإهمال والتسويف وإلغاء المواعيد بمبرر تعطّل الأجهزة أو غياب الأطباء، أو ببرمجتها لمدد تتجاوز السنة. لهذا على الحكومة أن تعي جيدا أن "المغربي يموت على أولادو أو على بلاْدُو". قد يصبر المواطن على الجوع لكنه لن يصبر على المرض الذي يهدد حياته وحياة أولاده.

من الخيمة خْرجْ مَايل.

إن المشاكل التي يعاني منها قطاع الصحة ليست وليدة اليوم بقدر ما هي بنيوية تتداخل فيها عدة عوامل: 1ـ مادية تحكمت فيها الميزانية الضعيفة التي رصدتها الحكومات المتعاقبة لهذا القطاع إذ بلغ المعدل السنوي 13 مليار درهم بين سنة 2011 و 2020 رغم قرار حكومة بنكيران إلغاء صندوق المقاصة وتحرير أسعار المحروقات ووعوده بتحسين وتوفير الخدمات الاجتماعية لعموم المواطنين. ذلك أن حكومة البيجيدي نفذت شعار بنكيران "حان الوقت لترفع الدولة يدها عن الصحة والتعليم". وقد رفعته فعلا خلال رئاسة البيجيدي للحكومة بحيث لم يتم إنجاز سوى مستشفى جامعي واحد بمدينة وجدة. ولم تعرف الميزانية زيادة ملحوظة إلا ابتداء من 2022 (بلغت 32 مليار سنة 2025). ورغم ذلك ظلت ميزانية وزارة ضعيفة بحيث لم تتجاوز 5.89% من الميزانية العامة (مقابل 10 في المائة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية)؛ مما يجعل نصيب الفرد منها لا يتجاوز 561 درهم. علما أن نفقات التسيير تمتص 79% من ميزانية وزارة الصحة، تشكل أجور الموظفين والأعوان67 % منها، بينما لا تتجاوز ميزانية الاستثمار 21%. الأمر الذي يثقل كاهل الأسر التي تصل مساهمتها إلى 48.49 % (32 % في القطاع العام و40 % في القطاع الخاص)، مما يجعلها تفوق المتوسط العالمي المحدد في 25 %. وبذلك يصنَّف الإنفاق الصحي في المغرب، حسب منظمة الصحة العالمية، "بالإنفاق الكارثي"، بحيث يتعين على الأفراد أو الأسر تحمل النفقات العلاجية بشكل لا يتناسب مع مواردهم. وقد قدرت وزارة الصحة أن 2% من الأسر تجد نفسها أمام كارثة مالية، وما يناهز 1,4 % من الأسر تنحدر إلى عتبة الفقر بسبب النفقات المباشرة من أجل العلاج.

إن الوضعية المتردية لقطاع الصحة انعكست على ترتيب المغرب، سواء في في مؤشر الرعاية الصحية العالمي حيث احتل المرتبة 94 من أصل 99 دولة شملها التقرير، أو في مؤشر التنمية البشرية الذي احتل فيه المغرب الرتبة 120 وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للتنمية البشرية 2023-2024.
2 ـ بشرية وتتجلى في:

أ ـ النقص الكبير في الأطر الطبية: كشفت الاحصائيات الرسمية التي أعلنت عنها المندوبية السامية للتخطيط، أن عدد أطباء القطاع العام والخاص 28 ألف و392 سنة 2024، ضمنهم 15 ألف في القطاع العمومي، أي بمعدل 7.3 أطباء لكل 10 آلاف نسمة؛ في حين أن المتوسط العالمي هو 13 طبيباً لكل 10 آلاف، بينما المعايير المعتمدة من منظمة الصحة العالمية تحدد المعدل في 23 طبيبا لكل 10 آلاف نسمة.

ب ـ هجرة الأطباء إلى الخارج، تزيد وضعية قطاع الصحة تأزما نظرا لهجرة ما بين 600 و 700 طبيب مغربي سنويا، أي 30 بالمائة من الخريجين الجدد. وحسب مندوبية الإحصاء، فإن المغرب فقد 1400 طبيب خلال سنة واحدة بحيث انتقل عدد الأطباء بالقطاعين العام والخاص من 29 ألف و904 طبيبا سنة 2022 إلى 28 ألف و392 سنة 2024.

ج ـ غياب الضمير عند فئة من الأطباء والممرضين، إذ أكدت الوقائع وشهادات المرضى وذويهم كيف يتم إهمال المرضى أو تمديد مواعيدهم العلاجية أو تأجيلها بمبررات شتى أو حرمانهم من الأدوية.

3 ـ إدارية: تتعلق بالحكامة إذ يشكل ضعفها "أحد أهم المؤشرات على تواضع ومحدودية خدمات المنظومة الصحية الوطنية" وفق ما جاء في التقرير النهائي لمجموعة العمل الموضوعاتية المكلفة بالمنظومة الصحية. الأمر الذي يضع المنظومة الصحية أمام مجموعة من الإشكاليات أبرزها: تمركز القرار الصحي على المستوى المركزي، سوء تدبير الموارد البشرية والمالية (يتمركز أكثر من ثلث الأطباء في جهتي الدار البيضاء سطات والرباط سلا القنيطرة)، غياب آليات لترشيد استعمال الموارد الطبية وافتقار القطاع الصحي لمنظومة معلوماتية مندمجة للصحة.

4 ـ سياسية: تتعلق، من جهة، بالتوزيع غير العادل للمستشفيات وضعف توفير الخدمات الصحية وتقريبها من المواطنين عبر التراب الوطني (لا يستفيد الفرد سنويا سوى مما يناهز 0.65 فحصا طبيا، و0.83 فحصا شبه طبي)، ومن أخرى، بأسعار الأدوية التي تُضاعف أسعار مثيلاتها في دول العالم بما فيها الدول الصناعية. إذ انتقد تقرير لجنة القطاعات الاجتماعية حول المهمة الاستطلاعية المؤقتة لمديرية الأدوية والصيدلة 2014/2015 سياسة الدولة كالتالي (بل لحد الساعة ليست هناك بوادر لسن سياسة إرادية لفائدة الدواء الجنيس الذي لا يتعدى ولوجه السوق المغربية 72 %على خالف الدول الغنية، والذي يتعرض باستمرار لحملة تشهيرية مغرضة. كما أن تشجيع الصناعة الدوائية الوطنية وتشجيع تداول الدواء الجنيس ليقترب من المعدلات الدولية كالولايات المتحدة الأمريكية (42 %) وغيرها، يتطلب من السلطات العمومية إقرار سياسة دوائية ناجعة، تتوجه نحو إجراءات مواكبة لدعم صناعة دوائية وطنية ترمي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وفتح فرص وآفاق التصدير وتسهيل ولوج المواطن إلى الدواء بجودة وفعالية عالية وأسعار موضوعية).

ربط المسؤولية بالمحاسبة بدل تدوير المسؤولين.

لا شك أن عجز الحكومات المتعاقبة عن حل المشاكل المتراكمة في القطاعات الاجتماعية الحيوية (الصحة والتعليم) يفرض إلحاقها بوزارات السيادة حماية لها من المزايدات الحزبية والاستغلال السياسوي الذي يعطل أداءها ويغرقها بالعناصر غير الكفؤة التي حذر منها جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2017 كالتالي: "إن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب، هو ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات، التي تقدمها للمواطنين.. ولوضع حد لهذا المشكل، فإن العامل والقائد، والمدير والموظف، والمسؤول الجماعي وغيرهم، مطالبون بالعمل، كأطر القطاع الخاص أو أكثر، وبروح المسؤولية وبطريقة تشرف الإدارة، وتعطي نتائج ملموسة، لأنهم مؤتمنون على مصالح الناس".

إن قرارات الإعفاء التي اتخذها مؤخرا وزير الصحة في حق بعض المسؤولين ليست ذات مصداقية بدليل أنها صدرت في حق أشخاص تم إعفاؤهم من قبْل من نفس المهام؛ وبالتالي يتم تدوير المسؤولين عبر الأقاليم لينتجوا ذات المشاكل التي تم إعفاؤهم بسببها. لهذا لا يمكن تحقيق الإصلاح بالعناصر الفاسدة التي تتخذ من الأحزاب مظلات تحميها من المحاسبة. ومن أجل وضع حد للفضائح والاختلالات التي تم الكشف عنها في المستشفيات وإنهاء معاناة المرضى بضمان حقهم في الدواء والعلاج، يتوجب، أولا تحريك لجان التفتيش والمراقبة؛ ثانيا، وضع رقم أخضر رهن إشارة المواطنين للتبليغ الابتزاز والإهمال وسوء المعاملة التي قد يتعرضون لها؛ ثالثا، على الحكومة تفعيل الدستور بربط المسؤولية بالمحاسبة في كل المواقع مهما علا شأن المسؤول. أما الإعفاء دون محاسبة ولا محاكمة فهو تشجيع للمسؤول الفاسد وتكريم له. رابعا توفير الأجهزة الطبية والأدوية مع ضمان وصولها إلى مستحقيها. هذه إجراءات أولية من شأنها طمأنة المواطنين على جدية الحكومة في إصلاح قطاع الصحة والالتزام بوعودها في توفير وتجويد الخدمات الاجتماعية.