
بنظرة ماسحة للإعلام الإسباني، وباستقراء فاحص لمواقف الأحزاب الإسبانية، يسارا ويمينا، نصطدم بأن الجارة الشمالية لا ترى في المغاربة سوى النقائص، مما يؤكد أن اعتراف إسبانيا في مارس 2022 بمغربية الصحراء، وتبنيها لمقترح الحكم الذاتي المغربي حلا وحيدا للنزاع، ليس لحظة مفصلية في تاريخ العلاقات بين البلدين، ولا ينبغي التعامل معه بوصفه كذلك.
صحيح أن هذا الاعتراف تحول استراتيجي في الموقف الإسباني بعد عقود من المراوغة المضمرة والمعاكسة الصريحة والتردد الواضح، وصحيح أن المغرب وإسبانيا (فضلا عن البرتغال) سيشتركان في تنظيم كأس العالم 2030، غير أن ذلك لا يكفي لإخفاء التوترات العميقة التي تطبع نظرة إسبانيا إلى المغرب، ولا يكفي لإبطال الخصومة التاريخية التي تراكمت عبر قرون من المواجهات الحربية، إذ يبدو أن التحول الرسمي في الموقف الإسباني، مع ما استتبعه من اتفاقات وتفاهمات، لم ينجح في إسكات صوت التاريخ، فضلا عن أصوات عديدة داخل الساحة الإسبانية، سواء من الإعلام أو من الأحزاب اليسارية واليمينية، التي لا تفوت فرصة دون مهاجمة المغرب وربط اسمه بكل الأزمات التي تعصف بالداخل الإسباني. ففي كل مرة تثار فيها قضايا الهجرة أو الاتجار بالمخدرات أو الأزمات الدبلوماسية العابرة، سرعان ما يُصوَّر المغرب باعتباره مصدر الشرور.
من هنا يتضح أن إسبانيا الرسمية لا تسيطر، في العمق، على أصوات إعلامها وأحزابها التي ما زالت ترى في المغرب مشكلة أكثر منه شريكا موثوقا، ما دامت قواها الحزبية والإعلامية ما زالت تتبنى، حتى الآن، خطابات عدائية ضد المغرب، وتوظف ملف الصحراء للمزايدة السياسية أو لخدمة مواقف أيديولوجية مناهضة لوحدة المغرب الترابية، وخاصة تلك التنظيمات المحسوبة على اليسار الراديكالي أو اليمين المتطرف أو بعض التيارات القومية، إضافة إلى إعلام مؤدلج وجمعيات مدنية مرتبطة باللوبيات الجزائرية والانفصالية، إذ تتحرك آلتها في لحظات مفصلية (الأزمات الداخلية لتندوف أو تعثر الدبلوماسية الجزائرية)، محاولة إضعاف مصداقية الموقف الرسمي الإسباني وإعادة إنعاش المشروع الانفصالي الذي يعيش عزلة متزايدة. وهي حملات دعائية أكثر مما هي تعبير عن المصلحة الوطنية الإسبانية أو موقف الرأي العام.
غير أن المغرب من جانبه، بدل أن يوازن بين الترحيب بالموقف الإسباني وانتقاد تناقضاته، ما زال يعيش لحظة (البيان المشترك لـ 7 أبريل 2022)، بل ظل منذ تلك اللحظة منخرطا في حملة تطبيل غير مشروطة تُخفي الكثير من الأعطاب، وكأن كل المشاكل مع مدريد قد انتهت، وأن العناق الشامل هو الحل، والحال أن المغرب، بأحزابه السياسية وإعلامه الحر وجمعياته المدنية، مدعو إلى فضح ازدواجية الخطاب الإسباني، والتمسك بثوابته السيادية وحقوقه التاريخية، وفي مقدمتها استرجاع المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية فضلا عن باقي الجزر المغربية المحتلة، إلى جانب مطالبة مدريد بالاعتراف بجرائم الجيش الاستعماري الإسباني في الريف.
لنلاحظ أن الإعلام الإسباني، خاصة القريب من خطاب اليسار الراديكالي (بوديموس) أو اليمين الشعبوي (فوكس)، ما زال يعيد إنتاج صورة تمثل المغرب بوصفه جارا مقلقا ومصدرا لمشاكل متواصلة، بل ما زال يمنح بسخاء كبير مساحات واسعة لخطاب البوليساريو، متجاهلا التطورات الدولية والإقليمية التي جعلت مقترح الحكم الذاتي المغربي يحظى بدعم دولي متزايد (أمريكا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا..إلخ). كما أن ملوك إسبانيا – من خوان كارلوس إلى فيليبي السادس – رغم حرصهم في خطاباتهم على إبراز خصوصية العلاقة مع المغرب، فإن الحكومات المتعاقبة، سواء بقيادة الحزب الشعبي أو الحزب الاشتراكي، لم تتردد في استغلال ورقة المغرب في بازار السياسة الداخلية. ذلك أن الأحزاب اليمينية المتشددة، مثل (فوكس)، بنت جزءا كبيرا من خطابها على التحذير من (الخطر المغربي)، بينما الأحزاب اليسارية لم تتوقف عن التشهير بما تسميه أوضاع حقوق الإنسان في الصحراء". وهو ما يضعنا أمام ازدواجية مكشوفة، انفتاح رسمي براغماتي وهجوم داخلي مفرط في تحامله.
إن التطبيل للموقف الإسباني الداعم لمغربية الصحراء لا ينبغي أن يسقط المغاربة في ما يشبه فقدان الذاكرة الجماعية حيال ماض دموي واستعماري بغيض غير بعيد، وحيال حاضر وعنصري متوتر لم يختف تماما. وليس أدل على ذلك من حرب تطوان (1859–1860) التي تم احتلالها من طرف إسبانيا التي فرضت على المغرب معاهدة مذلة وغرامة مالية هائلة، ثم حرب الريف التي خاضها الإسبان بالغازات السامة في عشرينيات القرن الماضي، إلى استمرار احتلال سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، مرورا بأزمات متكررة أبرزها أزمة ليلى واندفاع المهاجرين في سبتة.
إن اعتراف إسبانيا بمغربية الصحراء دون شك انتصار دبلوماسي واضح، لكنه ليس صك براءة نهائي بإمكانه أن يطوي صفحات التوتر العالقة، وليس مكسبا استثنائيا ينبغي الاكتفاء به. ذلك أن الذاكرة السياسية المغربية مطالبة بأن تكون يقظة، وألا تنخدع بخطاب المديح الإسباني (الموقف الرسمي)، لأن التجارب التاريخية أثبتت أن مدريد لا تفوّت أي فرصة لتصوير المغرب بوصفه خصما استراتيجيا. وبين هذا وذاك، يبقى على الرباط أن تدير علاقتها مع الجار الشمالي بعينين: عين ترحب بما هو إيجابي، وعين لا تنسى ما في التاريخ والجغرافيا من ألغام قابلة للانفجار في أي لحظة، علما أن الصراع المغربي الإسباني ليس وليد اليوم، بل هو صراع تاريخي يمتد إلى ما قبل سقوط الأندلس سنة 1492 وما أعقبه من طرد المسلمين واليهود من شبه الجزيرة الإيبيرية، إذ دخلت بعدها العلاقات بين المغرب وإسبانيا مرحلة صراع مفتوح تجلت استمراريته في أحداث مفصلية كبرى: أزمة جزيرة ليلى سنة 2002، اندفاع آلاف المهاجرين نحو سبتة سنة 2021، ثم التوتر الحاد بسبب استقبال مدريد لزعيم البوليساريو إبراهيم غالي في 2021، فضلا عن اتهام المغرب بالأسطوانة المشروفة المتمثلة في "التجسس على مسؤولين حكوميين إسبان في ما يعرف بقضية بيغاسوس".
تأسيسا على ذلك كله، ينبغي على الطرف المغربي، عندما يشرع في تحليل الموقف الإسباني، أن يقدم قراءة نقدية للسياسات أو للمواقف الإعلامية التي تستهدف المغرب يوميا، وألا يختزل العلاقة في لحظة الاعتراف بمغربية الصحراء، فيُولّد بذلك توقعات غير واقعية أو شعورا زائفا بالطمأنينة لدى الرأي العام المغربي، بينما يظل الطرف الإسباني محافظا على خطابه العدائي والمتناقض. ولذلك يتعين القيام بما يلي:
أولا: علينا أن نفهم أن الموقف الإسباني ليس تحولا جذريا بدون سياق، وأن نتبنى موقفا نقديا موضوعيا من أي خطوة إسبانية، حتى لو كانت إيجابية، مع الإبقاء على الملفات التي ما زالت مفتوحة.
ثانيا: تبني خطاب سياسي موحد مغربي يركز على المصالح الوطنية، أي موقف داخلي يجب أن يرتكز على حماية السيادة المغربية ومصالح المغرب الاقتصادية والسياسية وحماية حقوق مغاربة إسبانيا، وليس مجرد احتفاء رمزي بتحولات أجنبية مؤقتة.
ثالثا : تعزيز فرص التعاون ببراغماتية كبيرة، لكن دون أن يتحول هذا التعاون إلى ثقة مطلقة، أي الابتعاد عن تضخيم أي خطوة إيجابية أو الانتقاص من أي انتهاك أو تهديد، لضمان مصداقية الخطاب أمام الرأي العام والفاعلين الدوليين.
رابعا: التعامل مع مدريد ببراغماتية: تعزيز التعاون في الملفات المشتركة، مع الحفاظ على حق الرد في كل قضية تمس السيادة المغربية.
خامسا: تعليم التاريخ المتعلق بالعلاقات المغربية–الإسبانية في الإعلام والجامعات والمؤسسات الثقافية لفهم الديناميات الحالية، إضافة إلى توظيف الأمثلة التاريخية بشكل بناء لفهم السلوك الإسباني الحالي، مثل حرب تطوان، معركة أنوال، أزمة جزيرة ليلى، والعنصرية ضد المهاجرين المغاربة.
سادسا: تفعيل الذاكرة التاريخية بشكل بنّاء وتحويلها إلى وعي استراتيجي: ليس للانتقام، بل لفهم وتحليل مواقف مدريد الحالية، وقراءة احتمالات التحركات المستقبلية.
سابعا: تقديم برامج توعية سياسية (ندوات وحوارات وورشات) يشارك فيها سياسيون وأكاديميون ومؤرخون ومفكرون من الضفتين.
ثامنا : نشر مقالات وتقارير دورية تحلل الأخبار الإسبانية بموضوعية، وتفسر دوافع مدريد الفعلية لكل خطوة من الخطوات التي تتخذها من المغرب حيال هذا الملف أو ذاك.
تاسعا: استغلال الاعتراف الإسباني لتعزيز موقف المغرب في المحافل الدولية، مع إبقاء الخيارات مفتوحة للتعامل مع أي تصرف معادي مستقبلي.
عاشرا : تعزيز دور المجتمع المدني في مراقبة العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا، من خلال تنظيم لقاءات حول القضايا المشتركة.
إن هذه الخطوات هي الكفيلة فقط بإرجاع اللوبيات الإسبانية المعادية للمغرب إلى رشدها، لأن مفتاح أي علاقة متوازنة بين الرباط ومدريد هو عدم تنازل المغرب عن حقوقه التاريخية ولا عن مطالبه السيادية، سواء تعلق الأمر بملف الصحراء أو بالأراضي المحتلة أو بجرائم الاستعمار أو بالعنصرية ضد المهاجرين المغاربة. ولعل التحدي الأكبر أمام البلدين هو كيفية إدارة هذه الازدواجية بوعي براغماتي، يضمن المصلحة المشتركة ويجنب العلاقات الثنائية الوقوع في فخ المزاد السياسوي الرخيص.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"