Friday 5 September 2025
كتاب الرأي

منعم وحتي: ريفيان.. لكن مختلفان

منعم وحتي: ريفيان.. لكن مختلفان منعم وحتي
عاشرت عن قرب أسرا من الحسيمة في قمة الطيبة والروح السامية للعيش المشترك، وزاد تعلقي بهاته الساكنة الراقية بحضوري وسط الضغط أثناء احتجاج 20 يوليوز 2017 بقلب الحسيمة. وكم كان التعاضد كقلب مغربي واحد حين خرج كل أبناء وبنات الشعب المغربي في شوارع الرباط والبيضاء في أضخم التظاهرات التي شهدها المغرب، حيث احتضنت الأسر المغربية بعضها بين الشمال والجنوب والوسط والشرق والغرب بروح واحدة، تجسيدا لمطلب الشعب المغربي بإطلاق سراح نشطاء الحسيمة، وحتى الشعار الذي رفعته الجماهير في قلب العاصمة والبيضاء كان ذا دلالة قوية: "وطن واحد.. شعب واحد"، هو التآزر الأسري والنضالي والوطني الذي يجعلنا ذاتا واحدة ضد تغول الفساد.
 
من عادتي لا أحبد شخصنة الظواهر والأفكار، بل تفكيكها في قوالبها العامة، لكنني أجد نفسي مضطرا لوضع بروفايلين لشخصين مختلفين، لهما حيثيتهما الخاصة، ومنحدراتهما من الريف الشامخ، لكنهما يعكسان شريحتين، ونظرتهما تتقاطع في مواضع وأمكنة، لكنها تتنافر في أخرى.
 
البروفايل الأول: عبد الصادق البوشتاوي، صلب في الموقف ومتصلب في التعاطي مع بقية زوايا الرؤية، رافع بشكل قوي حول معتقلي الريف، يغطي الانتماء للريف عنده أي انتماء آخر أوسع أو أشمل، وخارج الشعاع الضيق للجغرافية الخاصة فلا يوجد عنده إلا المتآمرون والخونة والعملاء والدكاكين والبصاصون، كأن جغرافية الصفاء العرقي منزهة بطهرانية الدم السامي على بقية الأعراق، ناسيا أو متناسيا تضحيات محاميات ومحامين من بقية أعراق المغرب، كانوا و كُنّ نموذجا نقياً وراقياً في احتضان شباب الريف، وأحزاب وتيارات سياسية استماتت في الدفاع عن شباب الريف، إلى درجة أن الأحزاب اليسارية التي كال لها السب والشتم والتجريح حُوكِمَ مناضلوها بتهم ثابتة في محاضر الشرطة، مضمونها مساندة حراك الريف والتعبئة للاحتجاج من أجل إطلاق سراح معتقليه، إنها قمة النرجسية الجغرافية أن تتمركز كل اهتماماته حول الذات وترمي ما دونها بأبشع النعوت، هي معارك خاسرة تلك التي تستعدي حلفاءها وأحزمتها المساندة، ذات النرجسية التي تعتبر ببلادة ما دونها نقيضا للكسر، استعداءُ أصحابِ البدلة السوداء، استعداءُ الأحزاب المناضلة، استعداء زوايا أخرى لتلمس الحلول، إنها إطلاقية مَرَضِيَّة تضر قضايا الريف العادلة، وتضر معتقلي الريف وتصيب في مقتل آمالَ أُسَرِ شباب الريف المعتقلين في معانقة أبنائهم للحرية، وبالطبع كانت تتاقطع رؤى هذا السيد الفاضل مع نفس القفزات في الهواء التي تستهوي "جُمهوريي اللايف" ببلاد المهجر، دعوة رفاقية لمراجعة الذات فقضية الريف قضية كل المغاربة، وقوى اليسار الحقيقي لا تحتاج لشهادة نضاليتها. 
 
البروفايل الثاني: جمال أفتيح، ذلك الشاب الريفي، الأوطامي المتفرد بثقافته الواسعة،.. ذات سنوات رصاص، حين كانت القلعة الجامعية بوجدة، منارة للتربية النضالية والوجدانية، ابن اليسار بامتياز، ابن مدرسة رفاق الشهداء بتميز، ابن المدرسة الاتحادية الأصيلة وفيدرالية اليسار الديمقراطي لاحقا، ممثلا لليسار في أجهزتها الجامعية، وقائدا لمعارك الحركة الطلابية، حيث لا ميز بين منحدرات بني ورياغل ولا بني يزناسن ولا إزغنغن ولا بني عروس،.. كانت الكوفية الفلسطينية لا تفارق عنقه، فهو أممي الهوى، تجاوزت حدود مشروعه الإنساني رقعته الجغرافية الريفية لتحتضن مقاومة العالم بأمريكا اللاتينية ولبنان وسوريا، وفلسطين..، وحتى وهو بمنفاه الإضطراري بهولاندا لم يغادره الوطن، كل الوطن، فقد كان ابن الريف الذي يدافع على تحرر كل المغاربة، فما أحوجنا لذات النضج المتعالي على الأنا، وقد خرج جمال في كل تظاهرات الحراك رغم أن الجمرة الخبيثة للسرطان كانت للأسف تلتهم أحشاءه، وما قال يوماً إن رقعتي الضيقة هاته سَيِّجُوهَا، بل رقعته كل الإنسانية والريف جزء من معركة التحرر العام للمغاربة، بل تحرر كل الإنسانية، وكان كذلك ابْنَ الإنسانية الأشمل حتى عاد في كفنٍ مسجى بعلم فلسطين وفي قلبه غصة على حرية بلده، كل بلده شمال وجنوبا، شرقا وغربا.
 
مناسبة العودة لهاته المقارنة التي مرت عليها سنوات، الكلمة التي ألقاها الزفزافي في تأبين والده رحمة الله عليه، والتي كانت في قمة النضج والمسؤولية حين وجه التحية لأهله ولكل ساكنة الوطن شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، وتأكيدا على الصحراء المغربية، وللتاريخ والتذكير فليست أول مرة كان الزفزافي فيها واضحا في مرامي الحراك، حين صرح في العلن ذات تظاهرة أنه يدين سطوة كابرانات الجزائر وديكتاتوريتهم في التحكم في رقاب الشعب الجزائري، وهي دعوة واضحة لإسقاط كل ترهات بعض مرتزقة "جمهورية اللايف" الذين ارتموا في بترودلار عسكر الجزائر.. الغريب والمرير أن بعض تلك الأصوات المريضة "لجمهورية اللايف" انبرت مرة أخرى لتخوين ناصر الزفزافي ووصفه بالمتخادل فقط لأنه وجه التحية لأبناء الوطن مغاربة الصحراء والشمال، إنه البؤس الفكري في أبشع صوره.
 
كما كان واضحا في مذكرة فيدرالية اليسار الديمقراطي التي كانت جريئة في طرحها لشروط انتخابات نزيهة في المغرب، فإن المدخل الحقيقي هو تصفية الأجواء السياسية بإطلاق سراح كل معتقلي الرأي والمتابعين في هذا السياق وفي مقدمتهم مناضلي حراك الحسيمة.
 
هي ليست مقارنات شخصية، هي رؤى تتقاطع وتتنافر، من المهم التقاط الإشارات الأكثر تمثلا للحرية فيها، ببعدها الإنساني الأشمل. فالوطن في العينين.. فليلتقط الإشارة من له النباهة لذلك.