في زمن أصبحت فيه الكرة المستديرة أكثر من مجرد رياضة، بل لغة عالمية توحد الشعوب وتهز المشاعر، يتعاظم دور الجماهير في تشكيل المشهد الرياضي، ويتحول الحضور الجماهيري من مجرد عنصر دعم وتشجيع إلى فاعل مؤثر في القرار والرأي العام.
لكن، في ظل هذه الأهمية المتنامية، برزت ظاهرة مقلقة تتفاقم يوما بعد يوم، لا في الملاعب وحدها، بل في المساحات العنكبوتية التي أصبحت ملعبا مفتوحا للغضب، والتجييش، والإنفعالات غير المضبوطة.
ظاهرة "الجمهور المتجاوز" الذي يلبس قناع الحب والشغف، لكنه ينهل من قاموس الإسفاف والجهالة، ويصنع من التشجيع سلاحا للفوضى لا للبناء.
نعم، من الجميل أن نرى جماهير عاشقة لفرقها، تتابع كل صغيرة وكبيرة، تناقش التشكيلات، وتقيم المدربين وتفكك صفقات اللاعبين. هذا الشغف دليل حياة رياضية نابضة. لكن ما إن يتحول هذا الشغف إلى حقد أعمى، وسب وقذف وشتائم، وتحريض وتجييش ضد اللاعبين والإدارة، فإن الأمر يفقد صفته الرياضية ويتحول إلى انفلات أخلاقي مدمر وهم حينئذ مابينهم وبين الكووورة عااا الخير والإحساااان ..
هل من الأخلاق أن يسب الجمهور لاعبه في أول ظهور وأول تعثر ؟
هل من المنطق أن يتحول النقد إلى تجريح؟
هل يجوز أن تكون مواقع التواصل ساحة للشتائم بدل أن تكون منبرا للرأي الرصين؟
هل من المنطق أن يتحول النقد إلى تجريح؟
هل يجوز أن تكون مواقع التواصل ساحة للشتائم بدل أن تكون منبرا للرأي الرصين؟
للأسف، هذه الممارسات تتكرر يوميا، ولا تصدر عن "أعداء الفريق"، بل من جماهيره المعلنة، التي تحب، لكن بطريقتها الفوضوية، وكأن الحب يبرر كل شيء.
جمهور يريد أن يكون مدربا، خبيرا، وناقدا... دفعة واحدة!
تحول بعض الجماهير إلى محللين ومنظرين وخبراء تكتيك مسألة مألوفة في عصر المعرفة المفتوحة، لكنها تصبح خطيرة حين يظن البعض أن امتلاك الرأي يساوي امتلاك القرار.
كثرة الآراء لا تصنع الحقيقة، وتنوع وجهات النظر لا يبرر السقوط في فخ فرض الرأي والتشويش على عمل المؤسسات الفنية. المدربون ليسوا معصومين، نعم، والإدارة قد تخطئ، ولكن علاج الخطأ لا يكون بالسب ولا بالتحريض، بل بالنقد البنّاء، والاقتراح المسؤول، والدعم في اللحظات الصعبة.
ما حدود الجماهير؟
وهل من حقها التدخل في الانتدابات والقرارات الفنية؟
وهل من حقها التدخل في الانتدابات والقرارات الفنية؟
من حق الجمهور أن يعبر، وأن يطالب، وأن يحاسب بطريقة حضارية. لكن ليس من حقه أن يتحول إلى جهة تنفيذية تعيّن وتُقيل وتُخطط وتُجيّش.
القرار الفني تقني في جوهره، وله أدواته وشروطه ومعاييره. الجمهور لا يُقصى من المشهد، لكنه لا يمكن أن يحل محل المسؤولين، وإلا فعليه أن يقدم ما يُثبت كفاءته: شواهد تدريب، شهادات تحليل رياضي، مؤهلات في التسيير والتدبير… وليس فقط منشورات انفعالية ومقاطع صاخبة.
في الوقت الذي كان ينتظر فيه أن تكون وسائل التواصل وسيلة ربط بين الأندية وجماهيرها، وأن تكون جسرا للتفاعل الإيجابي، تحولت للأسف إلى فضاءات شحن وتوتر وسبّ وقذف. بل صار بعض من الجمهور يمارس ضغطا يوميا على الإدارة والمدرب واللاعب، بشكل جعل الكثيرين يفضلون الانسحاب أو الصمت أو الرد بالمثل.
هذا الانفلات لا يضر بالنادي فقط، بل يسيء لصورة الجمهور نفسه، ويفقده مصداقيته، ويجعله يظهر كطرف غير ناضج لا يُميز بين الحب والدمار، ولا بين النقد والإهانة.
وفي الختام:أقول وأشدد على أننا في حاجة ماسة لجمهور يُشجّع لا لجيوش المشوّشين ...
إنّ الرياضة في جوهرها رسالة أخلاق قبل أن تكون منافسة، ومظهر حضارة قبل أن تكون سباق ألقاب. والجمهور، بما يملك من تأثير، إما أن يكون عنصر بناء أو معول هدم.
فاختر أيها المشجع:
هل تريد أن تكتب في صفحات التاريخ كعاشق وفيّ، أم كصاحب صوت نشاز أساء لفريقه باسم الانتماء؟
هل تريد أن تكتب في صفحات التاريخ كعاشق وفيّ، أم كصاحب صوت نشاز أساء لفريقه باسم الانتماء؟
