Tuesday 29 July 2025
كتاب الرأي

أنور الشرقاوي: أسمر اللون، من سلالة "الزرزور"، صار حكيمًا 

أنور الشرقاوي: أسمر اللون، من سلالة "الزرزور"، صار حكيمًا  الدكتور أنور الشرقاوي
حكاية مستوحاة من وقائع تاريخية مغربية حديثة، أحد أبطالها لا يزال على قيد الحياة. 

كان الرواق طويلاً، باهت النور، مشبعًا بضوء شاحب لا يرحم وجوه العابرين، ولا يُغفل شائبة.
يمشي بخطى بطيئة، كأن قدميه لا تنتميان إليه، كأنهما تخشيان أن تقوداه إلى قدرٍ أشد وطأةً من الفشل: اللاوجود.
اسمه ينتسب إلى سلالة "الزرزور"...
جاء من الجنوب، من قرية نسيها الجغرافيون وتلعثمت حروف الخرائط في نطق اسمها.
كانت يداه تفوحان بعطر تراب الأركان،
وعيناه تشعّان بوهج الرمال،
أما بشرته – تلك السمراء الندية، السوداء الوقورة – فكانت زينته الكبرى… وعذابه الأثقل.
دخل قاعة الامتحان كما يدخل المصير ساحة القضاء.
كانوا ثلاثتهم ينتظرونه، خلف طاولة الطب والقرار.
ثلاثة رجال بثياب بيضاء،
وثلاث نظرات، ادّعت الحياد… لكنها كانت قد أصدرت الحكم.
الأول يتصفح ملفه.
الثاني يرسم على الورق بلا معنى.
أما الثالث، فرفع عينيه نحوه.
وجه أبيض، ولسان مصقول، ونظرة لا تعرف الشك، كما لا يعرفه من وُلد في حضن الامتياز.
ثم نطق، بلا مقدمات، بلا خجل، بل بنبرة علمية مغلّفة بالقسوة:
"هل رأيتَ يومًا رجلاً ذا بشرة داكنة يصبح طبيبًا؟
وفوق ذلك، يحمل اسمًا من سلالة الزرزور؟"
سقط الصمت في الغرفة.
صمت ثقيل، حاد، غليظ...
صمت يُشبه قفصًا من زجاج غير مرئي.
شعر ابن "اازرزور" بانكسار داخلي لا صوت له.
لم تكن خجلة، ولا غضبًا.
بل كانت أقدم من ذلك.
أعمق.
كانت ذلك الشعور الذي يرافق من يدخل أرضًا يُسمح له بالسير فيها... دون أن يُعترف بانتمائه إليها.
لم يردّ.
لا لأنه عجز عن الجواب.
بل لأن الكلمات، في تلك اللحظة، كانت ستُذبح قبل أن تولد.
أراد أن يقول:
«أتيتُ من أرضٍ تبدأ فيها الطبابة بكفٍ على جبين طفل محموم.»
«أتيت من صمتٍ يُداوي.»
«أنا وعد المنسيين.»
لكنه صمت.
ثم خرج.
وبعد أعوام، صار أستاذًا.
صار حكيمًا.
صار من يبني الأمل في عيون الغير.
لكنه لم ينسَ تلك الجملة.
لا ليثأر.
بل ليمنع تكرارها.
ليزرع في مدرجات الطب، وفِي أروقة المستشفيات، وجوهًا من كل الألوان، وألسنة بكل اللهجات.
ليجعل من اسم "الزرزور" جناحًا لا قيدًا.
في بلدٍ قد تجرح الكلمة فيه أكثر من الجرح،
كان ذاك اليوم سهمًا خرج من عين رجل… أراد أن يُسقط طائرًا في أول تحليقه.
لكنه نسي حكمة السماء:
حتى الطيور السوداء… تطير.
وأحيانًا، تحلّق أعلى من الجميع.