مع أول قبض تمسك به رأس خيط موضوع "قبل الموت بقليل" ، تنتصب أمامك مرأة عاكسة، جاهزة لتظهر لك أي نموذج بشري أنت وأي صنف من الكائنات الإدارية التي تعرضها الرواية قد تمثله شخصيتك. إنها مرأة تجبرك، سواء أردت أم لم ترد على استدعاء تجربتك الشخصية في ميدان العمل تحت أي صفة من الصفات التي كنتها، أو لا زلت مسيجا بإطارها... وكأن الرواية تضعك في قلب محك نفسي وتحليلي صريح مع ذاتك.
"قبل الموت بقليل" ليست مجرد عمل روائي بل تجربة داخلية عميقة لا يمكن الولوج إليها إلا بذات مستعدة للمكاشفة، والخضوع لفحص نفسي دقيق يُعري علاقتك بالسلطة وتفاصيلها المغربة التي لا تقف عند حد.
في قلب الرواية، نجد "عبدو"، الشاب الجامعي الطموح، المحمل بقيم الصدق والنزاهة وكرامة النفس، يواجه بعد تعيينه في إدارة عمومية، ضغطا نفسيا خانقا مصدره رئيسه، ليجد نفسه شيئا فشيئا غارقا في مناخ إداري مسموم ينظم العلاقات بين الموظفين، مسؤولين وأطر وأعوان خدمة على أساس المحسوبية والانطباعات الذاتية، ويهمش العمل التشاركي، ويقصي العقل الجماعي ومبادئ الحوار والتقاسم
تحت وطأة هذا المناخ السلبي، تترعرع سلوكات تفرزها الديناميكيات الداخلية لجماعة العمل فيظهر التجاذب والتنافر، وتنشأ العشائر والتكتلات الثنائية، والثلاثية، والرباعية، ومن كل خليط ممكن حسب الهدف والعرض العرضي الملح ... وتنشط حصص المهارشة، وتتألق العيون المراقبة، ويكثر التفكير في إيجاد استراتيجيات وخطط تصرف الذهن عن الانشغال الحارق بجنون الإدارة وجبروتها، وتشجع، مقابل ذلك على خلق وقت للترفيه وتبادل أطراف الحديث حول أي موضوع من المواضيع التي تمنح كل واحد فرصة التنفيس عما يختلج داخله من شعور، فيحضر التبرير، والإسقاط والتقمص والتفلسف والإلغاء... وغيرها من الآليات الدفاعية التي يحمي بها كل واحد ذاته، ويستعيد من خلالها بعض توازنه المؤقت، إلا عبدو...
عبدو، بعزته وإبانه، استبطن الأذى بصمت، راكم الإحباطات حتى شل تفكيره، وأظلمت رؤيته وتهاوت الأعمدة الداخلية التي كان يستند عليها. لم يعد قادرا على المواصلة، فصرخ قبل أن يعبر ... ترك خلفه أضواء كاشفة عن أمراض تعصف بالمؤسسة العمومية وبأهدافها، أمراض تصلح أن تكون مادة علمية غزيرة للدراسة والتحليل السيكولوجيين، مادة خاضعة لمساير الرصد والتشخيص بأعتى طرائق التحليل النفسي، والعلاج المعرفي السلوكي، وتحليل السلوك التطبيقي، وعلم النفس الإنساني....
"قبل الموت بقليل" تجسيد رواني حي الظاهرة الاحتراق النفسي حين يتسلل طيف الضياع إلى الوعي، ويبدأ في غزو الكيان النفسي إلى أن يشله تماما، كما ينتشر الورم الخبيث في الجسد حتى يقضي عليه بالكامل.
"قبل الموت بقليل" رواية تفتح بابا جديدا لإعادة تصنيف الناس لا وفق مستواهم التعليمي أو الثقافي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، بل حسب موقعهم في سلم الإنسانية مدى حضور البعد الإنساني في تواصلهم مع الآخر ، وفهمهم للواقع من حولهم، وتمثلهم للظواهر.
"قبل الموت بقليل" صرخة واعية لإيقاظ الضمير، وتأسيس علاقة جديدة بين الرئيس والمرؤوس تقوم على الاحترام والتكامل، وتوظيف الطاقات الذهنية والوجدانية في سبيل المصلحة العامة. إنها دعوة لتجاوز الانغلاق نحو أفق يتسع للأمل والعمل والكرامة علنا بذلك نستطيع أن ننتقل من صيغة:"قبل الموت بقليل"، إلى صيغة: "بعد العيش بكثير".....
د. محمد بيدادة، سيكولوجي