
شكل موضوع "الصناعات الثقافية وتنمية التراث الموسيقي" خلال ندوة مهرجان العيطة بحاضرة المحيط ـ أسفي ـ في دورته 23، نقطة ضوء بهية وسط فضاء اللقاء والتواصل التراثي والفكري والفني مع مجموعة من الأساتذة الباحثين والدارسين والموسيقيين إلى جانب عشاق الغناء والموسيقى التقليدية، فضلا عن الحضور المتميز للمجموعة الرائدة "أولاد بنعكيدة" التي ساهمت في إغناء النقاش من خلال التجربة الفنية التي راكمتها طيلة خمسة عقود ونصف، حيث أطربت الجمهور بمقطوعات باذخة من غناء فن العيطة.
رئيسة الرابطة الفرنسية بأسفي، نوال اليتيم
الرابطة الفرنسية بأسفي تحتضن فعاليات مهرجان فن العيطة
وقالت رئيسة الرابطة الفرنسية بأسفي، نوال اليتيم، في كلمتها الإفتتاحية: "إنه لشرف كبير لنا أن نستضيف في هذا اللقاء الفكري حول فن العيطة داخل هذا الفضاء مجموعة أولاد بنعكيدة الرائدة في مجال فن العيطة، على اعتبار أن الرابطة الفرنسية بأسفي تؤمن بأن الثقافة في تنوعها هي مصدر غنى وقوة المجتمعات". وعبرت عن أملها في "أن تكون هذه اللحظات محطة جديدة لتكريم فن العيطة وتوسيع دائرة الاهتمام بها محليا ودوليا"
لقد كان اختيار فضاء الرابطة الفرنسية من طرف مديرية الثقافة بأسفي واليوسفية يوم الجمعة 18 يوليوز 2025 لاحتضان ندوة "الصناعات الثقافية وتنمية التراث الموسيقي" ناجحا وعكس أهمية تثمين وتحصين تراث فن العيطة، باعتبار أن المكان له قيمته الثقافية والفنية والتربوية، وفي هذا السياق أكدت المسؤولة عن المؤسسة بقولها: ّ"نحتفي اليوم بإرث فني مغربي أصيل ينبض بعبق الذاكرة الشعبية ويجسد تاريخا غنيا من المقاومة والتعبير عن الهوية والوجدان المغربي".
وشددت نفس المسؤولة في كلمتها الإفتتاحية قائلة: "يسر الرابطة الفرنسية بأسفي أن تفتح أبوابها اليوم كفضاء للتبادل الثقافي والحوار الفكري، والاحتفاء بهذا الموروث من خلال الندوات الفكرية. وأيضا من أجل فتح نقاش مثمر مع أساتذة وباحثين ومهتمين بهذا الفن لتبادل الآراء وتعميق الفهم حول رمزيته وتاريخه". وأشارت في كلمتها بأن "الرابطة الفرنسية بأسفي لم تكن مجرد مركز لغوي أو ثقافي بل هي جسر للتلاقي والتقاطع بين الثقافات ومنبر مفتوح أمام كل تعبير فني وفكري يعزز قيم التعايش والإنفتاح" .
أسئلة ندوة الصناعات الإبداعية من أجل تنمية التراث الموسيقي
في تقديمه لأرضية الندوة أكد الإعلامي المهتم بالموروث الثقافي الشعبي أحمد فردوس، على أن ثلة من المثقفين يعتبرون أن الثقافة ترتبط بمفهوم الذاكرة الذي يسهم في تحديد الثقافة انطلاقا من أن "الذاكرة تُسهم في ترجمة ماضي الخبرة التاريخية إلى نصوص ولغات وتعبيرات متنوعة". من هذا المنطلق فإن الثقافة المغربية تمثل "خلفية رئيسة وفاعلة لممارسات الإنسان المغربي في علاقته بالمجتمع والتاريخ انطلاقا من صرحها الذي تُشيده المكونات العربية الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية وتغنيه الروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية".
وأشار الإعلامي أحمد فردوس بجريدتي "الوطن الآن" و "أنفاس بريس" في أرضية الندوة إلى أن بعض الخبراء يشددون على أن "إدماج الثقافة في التنمية يتوقف على الوعي بهذا الإشكال لتسجيلها ضمن السياسات العمومية والتوجهات الاقتصادية والمخططات التي تنظم الجانب التشريعي للدعم والمواكبة وإنجاح إدماج المنتوج التراثي في سيرورة التنمية وفي إطار الاختيارات الرئيسة للبلاد وخاصة اختيار الجهوية بصفتها رافعة للتنمية". متسائلا عن السبل الممكنة لتحويل تراث الموسيقى والغناء عبر الصناعات الثقافية والإبداعية كعنصر فاعل في تنمية الجهات والمجالات؟
في سياق متصل بسط مقدم ومنشط الندوة إلى عدة أسئلة من ضمنها سؤال موقع تراث موسيقى وغناء العيطة في مجال الصناعة الإبداعية بعد أن تحولت ـ الصناعة الثقافية ـ بفعل عالم الرقميات والتكنولوجيا الحديثة إلى أسرع الصناعات نموا على المستوى العالمي، باعتبارها آلية اقتصادية تدر عائدات مهمة؟
كيف يمكننا تنمية تراث الموسيقى والغناء التقليدي وتقديم أرقى وأجود المنتجات ذات الصلة بالصناعة الثقافية في عالم متحول وسريع على مستوى العلاقات الإنسانية والاجتماعية، حتى نضبط عقارب الزمن على إجراءات المحافظة وتثمين وتحصين هذا التراث الغني من خلال الصناعة الثقافية؟ وما هي المقاربات المبدعة الجديدة التي يمكن للمغرب أن يتبناها لإدماج الشباب في هذه الفعالية الثقافية والفنية لضمان صناعة ثقافية منتجة وذات قيمة اقتصادية ببصمة وعلامة تمغربيت؟
لماذا لا يتم الاشتغال على نصوص غناء العيطة وتقديمها في حلة/عمل إبداعي وفني جديد ومتجدد يمتح من بعض التجارب التي استطاعت أن تبصم على الإقبال الجماهيري محليا وعربيا ودوليا على الإبداع المغربي الذي تمت صياغته وإخراجه عن طريق "المزج المتوازن في تلك الأعمال الإبداعية بين نجاحها الرقمي اللافت على المنصات التفاعلية وبين مستواها الفني المتماسك سواء من حيث المعايير الفنية والإيقاع أو البناء اللحني واللفظي؟"
عبد الحق الوردي وكريم الشقوري يكشفان عن واقع التراث الموسيقي
لقد أجابت مداخلات الأستاذين الموسيقيين عبد الحق الوردي وكريم الشقوري، المساهمين في ندوة "الصناعات الثقافية وتنمية التراث الموسيقى" عن مجموعة من الإشكالات ذات الصلة بواقع حال الغناء والموسيقى التقليدية المتعلقة بفن العيطة عامة، والعيطة الحصباوية خاصة: "في ظل التقدم التكنولوجي الذي يعرفه العالم، أصبح من الضروري ليس فقط حماية التراث بجميع روافده وفروعه، بل ضمان وصوله إلى أبعد نقطة جغرافية في العالم من خلال صناعة ثقافية تساهم في الرفع من قيمته المعنوية والمادية وتقف على القواسم المشتركة مع الآخر بفعل التأثير والتأثر رغم اختلاف الجغرافيا".
ولم يفت المحاضرين أن يؤكدا على أن " التراث الموسيقي المغربي ـ العيطة نموذجا ـ هو تراث حي يحمل من المقومات التاريخية والفنية من متون وبنية موسيقية وإيقاعية ما يتيح لها الإندماج مع أنواع وأنماط أخرى من التراث الموسيقي العالمي لتوضح حركيتها وتفاعلها عبر الزمن، وأنها لم تكن محصورة في جغرافيا محددة، بل استفادت من حركة الإنسان المغربي وتنقلاته سواء من خلال الفتوحات أو القوافل التجارية أو الرحلات..."
تحديات وإكراهات انتشار غناء وموسيقى العيطة الحصباوية عالميا
في سياق متصل انتصب سؤال إكراهات انتشار "فن العيطة" خارج حدود المغرب "لكن ما يعيق انتشار العيطة خارد المغرب أو بالأحرى اندماجها مع أنواع أخرى من التراث العالمي هو غياب موسيقيين مغاربة يجيدون التواصل بلغات أجنبية، يفهمون الخطاب الموسيقي والإيقاعي للعطية، من خلال تكوين فعال داخل المعاهد الموسيقية ويؤمنون بالدافع والترافع عن التراث كركن أساسي في الهوية المغربية".
نداء "العيطة"...في الحاجة إلى تدريسها بالمعاهد الموسيقية
وكشفت المداخلات على أن "المعاهد الموسيقية التي تكون أساتذة الموسيقى والموسيقيين لا تهم بكل أنواع التراث الموسيقي المغربي، اللهم نمط الموسيقى الأندلسية والملحون بطريقة لا تتعدى الحفز وبطريقة لا تواكب التقدم الذي يعرفه العالم ولا تستفيد من الإمكانات المتاحة، لأن عقلية الممتهنين لا تتعدى الاشتغال في الأعراس والمناسبات الوطنية والدينية، ولا تعمل على جعل الثقافة صناعة تساهم في الاقتصاد كمنتوج وطني مبني أساسا على التراث وتضمن حمايته واستمراره وانتشاره وتمدده"
وقد تقاسم المحاضرين مع مجموعة من الممارسين والفنانين إلى جانب عشاق الغناء والموسيقى التقليدية أهمية تدريس تراث فن العيطة داخل المعاهد الموسيقية، "إن لم يكن ذلك على المستوى الوطني، فيجب بالضرورة على المستوى الجهوي والمحلي" حيث يرى الجميع أن تدريس موسيقى ونصوص غناء العيطة بالمعاهد الموسيقية ستساهم لا محالة في حماية التراث الموسيقي بمنطقة عبدة خاصة وبجهة مراكش أسفي الغنية بتعدد أنماطها وخصوصية مناطقها ومجالها الجغرافي من أجل ضمان انتقاله إلى الجيل الجديد/الخلف من شباب شيوخ فن العيطة، ثم العمل على استثماره والإشتغال عليه إيجابيا حتى يساهم في صناعة ثقافية وإبداعية تضمن العيش الكريم لكل من يعتبره مصدر رزقه وعيشه"
وخلصت المداخلات القيمة تحت سقف الرابطة الفرنسية بأسفي، إلى أن تدريس موسيقى وغناء فن العيطة بالمعاهد الموسيقية من طرف أساتذة يحترمون هذا التراث المغربي الأصيل سيؤمن وسيحمي وسيوثق ويضمن الاستمرارية بهذه الأشكال التعبيرية التراثية التي تميز هويتنا الثقافية وتمنحنا خصوصية عالمية. على اعتبار أن دور المعاهد الموسيقية في إنتاج جيل جديد من أساتذة التعليم الموسيقي لهم القدرة على تفكيك وتحليل التراث الموسيقي المغربي ودمجه مع التراث العالمي حتى تصبح له القدرة على إبداع وصناعة إنتاجاته الفنية.
ماستر "الصناعات الإبداعية والإعلام" بالكلية المتعددة الاختصاصات بأسفي
ومن اللحظات المعبرة عن الفخر والاعتزاز بتنمية التراث الموسيقي والمساهمة فيه تعليميا بمناهج علمية، هي تلك التي قدم فيها الأستاذ الجامعي الدكتور سعيد لقابي شهادة تعزز قيمة "فن العيطة والموسيقى التقليدية" من طرف الطلبة الباحثين من أجل المساهمة في البحث والتوثيق الجامعي، حيث بشر الحضور بإحداث ماستر جديد بالكلية المتعددة الاختصاصات باسفي "ماستر الصناعات الإبداعية والإعلام" مما سيسهم في فتح حقل الصناعات الثقافية بحاضرة المحيط. ـ فوج 2024/2025 ـ
جمهور يمتطي صهوة خيول العيطة الحصباوية عازفا على إيقاع التوصيات
لقد كان تفاعل الجمهور ثلاث ساعات متتالية، مع أرضية الندوة وأسئلتها الحارقة، ومع مضمون مداخلات الأستاذين الموسيقيين عبد الحق الوردي وكريم الشقوري، وأيضا تفاعل عشاق العيطة مع المقطوعات الغنائية التي قدمتها مجموعة أولاد بنعكيدة، تفاعلا جد إيجابي، حيث ساهم المثقف والطالب والباحث والأستاذ الجامعي بمداخلات غنية وتبادل الرأي بشكل راق ومتحضر أبان على أن أسفي هي فعلا حاضرة المحيط وتستحق كل الخير والثناء.
ـ إليكم توصيات ندوة "الصناعات الثقافية وتنمية التراث الموسيقي"
ـ تأسيس مركز دراسة وتوثيق تراث غناء وموسيقى العيطة الحصباوية بأسفي
ـ إشراك الباحثين وأساتذة الموسيقى وشيوخ العيطة الحصباوية في التوثيق
ـ الإنكباب على دراسة وتوثيق تاريخ التراث المحلي المتعلق بآلة لوتار
ـ إدماج دراسة فن العيطة بالمعاهد الموسيقية وتعليم العزف على آلة لوتار
ـ تنظيم مناظرة محلية لتوثيق ودراسة نصوص فن العيطة الحصباوية
ـ دعوة جهة مراكش أسفي إلى الاهتمام بالتراث المحلي من أجل دعم ورد الاعتبار للعيطة الحصباوية