Wednesday 18 June 2025
فن وثقافة

الباحث والكاتب عبد الرحيم شراد يفكك طقوس "التّْبَوْرِيدَةْ" في برنامج "بصيغة أخرى" بإذاعة طنجة الحلقة (4)

الباحث والكاتب عبد الرحيم شراد يفكك طقوس "التّْبَوْرِيدَةْ" في برنامج "بصيغة أخرى" بإذاعة طنجة الحلقة (4) سعيد كوبريت وضيفيه شراد وفردوس (يسارا)

تابعت جريدة "أنفاس بريس" الحوار الشيق مع ضيفي الصحفي سعيد كوبريت في برنامجه الثقافي "بصيغة أخرى" الذي يبث من إذاعة طنجة، حيث استضاف كلا من الباحث الكاتب والمسرحي عبد الرحيم شراد، إلى جانب الإعلامي الزميل أحمد فردوس المهتم بالموروث الثقافي الشعبي، وتراث التّْبَوْرِيدَةْ، من أجل تسليط الضوء على تراث فن ورياضة الفروسية التقليدية كرافد حضاري مغربي أصيل ومكون هوياتي ثقافي، وتعبير تراثي بطقوسه الفنية والحماسية والمجتمعية والاحتفالية.

في هذا السياق أوضح معد ومقدم برنامج "بصيغة أخرى" الذي بثته إذاعة طنجة ليلة 4 الأربعاء يونيو 2025، من خلال ورقته التقديمية، بأن ثقافة وفن ورياضة التبوريدة، تعد منبع إلهام لمواضيع فنية متنوعة، حيث استقى من هذا التراث المبدع والفنان المغربي أشعار أغانيه الجميلة. وأضاف موضحا بقوله: أن التّْبَوْرِيدَةْ تحاكي الهجمات العسكرية في سالف الوقت، وتختلف صيغتها وأساليبها، بتعدد طرقها ومدارسها وبمختلف روافدها وخصوصيتها من مجال جغرافي لآخر.

وشددّ الزميل سعيد كوبريت على أن التّْبَوْرِيدَةْ، قد أضحت نوعا رياضيا، من خلال التباري والمنافسات التي تقام لهذا التراث اللامادي الأصيل بحضور الفارس والفرس، مؤكدا على أن من علامات تميز تراث الفروسية التقليدية، يتجلى توصيف صفات الخيل وأنواعها وسلالتها من أجل الإعتناء بذاكرتها الجماعية. حيث يرى نفس المتحدث بأن التبوريدة لم تعد فقط فن لِـ الّلعب، والإنتشاء بعد أن أحدثت لها بطولة وكأس وطنية، فضلا عن تعدد مهرجاناتها الخاصة والقائمة الذات، إلى جانب تعدّد محطات المواسم الصيفية، في إشارة إلى مؤسسة الْمَوْسِمْ ذات الصلة بعالمنا القروي بحمولته الأنثروبولوجية/ الأسطورية الشعبية.

وأورد صاحب برنامج "بصيغة أخرى" بأن السنوات الأخيرة عرفت فيها التبوريدة إنتعاشة قوية وارتقت سواء بالفارس أو الفرس من أجل دخول غمار منافسات كبيرة، والدليل في ذلك ما عاشته وتعيشه بلادنا مؤخرا، من بطولة وطنية بدار السلام ثم الإستعداد لمحطة معرض الفرس للجديدة، بعد إقصائيات إقليمية وجهوية وبين الجهات بين مختلف سربات الخيل على الصعيد الوطني، إلى جانب انطلاق العديد من مهرجانات التبوريدة في فصل الصيف.

إن النبش في روافد هويتنا الثقافية الحضارية على مستوى ملمح "التّْبَوْرِيدَةْ" بمناسبات تنظيم الملتقيات الوطنية، والمهرجانات والمواسم، بعد استضافت واحد من أبرز المهتمين والباحثين في هذا المجال الزميل أحمد فردوس، والذي قدم الكثير من المعطيات على اعتبار أن هذا الطقس يتمثل في تاريخ عروض الخيول والفرسان، باللباس والزي التقليدي الأصيل، وهو احتفاء وتعبير أيضا على جغرافيا معينة.

في هذا السياق نقدم للقراء الحلقة الرابعة والأخيرة من حوار الصحفي سعيد كوبريت في برنامجه الثقافي مع الباحث والكاتب المسرحي عبد الرحيم شراد، من أجل التعرف على تفاصيل أخرى، بمناطق وجغرافيات الهوية المغربية التي تمتاز بالتنوع والتعدد والاختلاف، إلى جانب بعض ملتمسات وتوصيات ضيف البرنامج.

ـ إليكم الحلقة الأخيرة من حوار الصحفي سعيد كوبريت مع الباحث عبد الرحيم شراد:

حين تختال الخيول وسط المحرك:

تحدث عبد الرحيم شراد عن إحدى كيفيات الطريقة الشرقاوية والتي تسمى بـ "لَمْخَتْلَةْ" وأورد في هذا السياق بأن بعض الفرسان يطلقون عليها إسم "لَمْرَتْلَةْ" لكن يجب التوضيح ـ حسب شراد ـ  بأن الترتيل يرتبط فقط بالقرآن الكريم، وبالتالي فهو يقول بـ الطريقة "لَمْخَتْلَةْ" وليس "لَمْرَتْلَةْ". ومعناه، أننا "نشاهد الفارس ممتطيا صهوة جواده وهو يختال على أرضية المحرك/المضمار"، حيث تقوم الحوافر الأمامية للفرس بالكتابة في حين تقوم الحوافر الخلفية بالمحو، أي أن حركات قوائم الفرس الأمامية تكتب وحركات القوائم الخلفية تمحو ما كتبته الأمامية، وهذه الكيفية تسمى بـ الشرقاوية "لَمْخَتْلَةْ" لأن الخيول تختال حينها، مع التأكيد على أن ندهة المقدم فيها نوع من الحنين والرقة وكأنها مناجاة، وعليه نؤكد بأن لكل منطقة من ربوع الوطن طريقتها وكيفياتها في ممارسة عروض التبوريدة.

اختلاف في الطرق والمدارس وتوحد في عشق سنابك الخيل والبارود:

نحن نختلف في المدارس وطرق الركوب واللعب بـ "لَمِْكَاحَلْ"، لكننا نتوحد في عشقنا للفرس ونتوحد في ولعنا في ركوب الخيول العربية الأصيلة أو العربية البربرية والتي نعتز بها، لأنها في الحقيقة هي خيول الفاتحين الذين تحدوا البحر نحو الأندلس. لأن الحكم المريني شمل مناطق شاسعة من المغرب العربي، لذلك نجد بعض الممارسات ذات الصلة بالفروسية وألعاب البارود تمتد إلى بعض الدول الشقيقة، وهذا دليل على أن السلاطين المغاربة كان حكمهم يمتد نفوذه إلى أبعد من الحدود الجغرافية المسطرة الآن.

إلى جانب هذه التفاصيل هناك منطوق القول كذلك، في كل حركة مع كل سَرْبَةْ، والتي تعكس وتبرز خصوصية المناطق والجهات بهويات مختلفة. اعتقد حتى في إبداع الكلمات وإن كانت في غالبيتها مرتبطة بالمعين الرُّوحي الصُّوفي القدسي، ولكن اعتقد أن الفروسية و "التّْبَوْرِيدَةْ" كانت لازمة في كثير من "لَعْيُوطْ"، وكثير من المتن التراثية، والكثير من الإبداعات الشعرية؟

بطبيعة الحال، أولا، فالمصطلحات المستعملة في مجال فن التبوريدة، هي مصطلحات عربية قحّة، لنأخذ مثلا، كلمة "السَّرْبَةْ" التي وردت في قصيدة "معلقة" أمرئ القيس حين قال:

فعنَّ لنا سِرْب كأن نعاجه / عذاري دوار يطُفْن في ملاء مذيل

وهو يصف سرب النعاج الذي شبهه بقطيع من الفتيات، و "السِّرب" هو اسم جمع لا واحد من لفظه وجمعه أسراب. ويمكن أن نستشهد في هذا السياق كذلك بالحديث النبوي الشريف "من أصبح آمنا في سربه".

إن كلمة "سَرْبَةْ" و "قَرْبُوصْ" و "السَّرْجْ" و "الِّلجَامْ" و "التّْرَاشَحْ" و "الَّلبْدَةْ"...إلى غير ذلك من مفردات تستعمل في مجال فن التبوريدة، كلها كلمات عربية فصيحة. إلى جانب فن العيطة الذي يتضمن متون عيطية تغنّت بالخيول وبكل مستلزمات الفرس والفارس والفروسية، وبألعاب البارود بطبيعة الحال.

التبوريدة فرجة ولحظات صناعة مساحات الفرح:

من المعلوم أن طقس التبوريدة هو طقس احتفالي، وهنا تبرز معانيه من خلال الغناء والإنشاد، ليس في المغرب فقط، هذا موجود في كل الحضارات الإنسانية، فمثلا في الحضارة اليونانية كانت هناك احتفالات أثناء موسم جني العنب، وأنتجت هذه اللحظة مظاهر الفرجة. لذلك فالإحتفالية مرتبطة بالموسيقى والرقص والغناء والأهازيج، وبالتالي فإن العيطة ليست بمعزل عن ذلك، والفروسية التقليدية في المغرب ليست بمعزل عن هذا.

ألعاب البارود تؤلف قلوب المغاربة وفرسانهم:

حتى في الفكر الاستعماري ـ حتى لا أقول الجنرال ليوطي ـ فإن فرنسا حينما وقعت عقد الحماية مع المغرب، انتبهت إلى أن الفروسية التقليدية وألعاب البارود يمكن أن تتألف حولها قلوب المغاربة، وحاول المستعمر حينئذ أن يستميل مجموعة من الفرسان حتى يمرروا مجموعة من الأفكار والمواقف...معنى هذا أنه حين نقول "التّْبَوْرِيدَةْ" فهي ليست بمعزل عن الثقافة من وجهة نظر أنثروبولوجية. لذلك فلا غرابة إن كانت التبوريدة مرتبطة بمجموعة من الحرف والصناعات التقليدية، وبالتالي فلابد أن نعيرها بالغ الاهتمام ضمن العدالة المجالية التي نتحدث عنها، وعن الرهانات التي نراهن عليها.

أتفق معك الأستاذ عبد الرحيم شراد، فحين نقول التبوريدة نقول بالفروسية ومواسمها ومهرجاناتها وبطولاتها الوطنية، فهي فرصة سانحة لإعادة الاعتبار للصانع التقليدي والحرفي صاحب أنامل المهارات والكفاءات والقدرات ذات الصلة بمنتوجات الخيول والفرسان، والتي للأسف تتعرض للإندثار في بعض المناطق.

يمكن أن نقول بأنها في طريق الإندثار، لكن من أجل هذا نحن نحاول الدفع بالتبوريدة كممارسة، وكألعاب جماعية للإحتفال، وكمظاهر استعراضية وفرجوية، من أجل أن نجعلها رافعة لصناعات ثقافية، على اعتبار أن الصناعة التقليدية بكل حرفها ازدهرت في العصر المريني بكثرة، ويتجلى ذلك في وفرة وتنوع أعمال التّطريز والزّخرفة والنّقوش ومختلف الحلي المرصّعة، إلى غير ذلك من صناعات الخزف والجلد والحرير، كل هذه الصنائع ازدهرت في العصر المريني، وبالتالي لنا اليوم في مدينة فاس كحاضرة حاضنة لهذه الصناعات، ومراكش كذلك، ومدينة الصويرة التي تتوفر على أمهر الصناع...كل هذه المدن تعتبر مراكز لهذه الصناعات والحرف، وواجبنا اليوم أن نرتقي بـ "التبوريدة" لتكون رافعة لكل هذه الحرف، خصوصا أنها تعتبر مصدر رزق وعيش لمجموعة من الأسر المغربية.

اعتقد أنه حينما نعطي لـ "التبوريدة" هذه الأهمية، معنى هذا أن مجموعة من الشباب سينخرطون في ورشات الصناعة التقليدية وفي مؤسسات التكوين المهني المرتبط بكل هذه المهن والحرف التي تتعلق بفن ورياضة التبوريدة، فإننا ننظر إليها بنظرة شمولية على مستوى تحصين وتثمين وتجويد الفروسية التقليدية كآلية لصناعات ثقافية.

علاقة التبوريدة بالأجناس الإبداعية:

أشتغل اليوم على علاقة التبوريدة بالأجناس الإبداعية ـ لا أقول الأدبية وإنما الإبداعية ـ مثل علاقة التبوريدة بالسينما، بالمسرح بالرقص بالموسيقى...لاحظ معي كيف اشتغلت مجموعة التكدة الشعبية وأبدعت لوحة فنية جميلة في علاقة التبوريدة بالموسيقى التقليدية والغناء والرقص، هنا ينتصب سؤال: لماذا هذا الإجتهاد الإبداعي ظل حبيس مجموعة التكدة بأغنية وحيدة عن الخيل والفرسان؟

نحن نؤسس ونبني المدارس، ونبني المراكز الثقافية ودور الشباب وقاعات العروض، فلابد أن ننهض بالثقافة التي تشبهنا، والثقافة التي تمثلنا، سواء بالشعر أو بالقصة أو بالرواية وأيضا بالرقص والنحت، وفي كل هذه المظاهر التي تروم الجمال، لابد أن نرتقي انطلاقا من هويتنا الثقافية، وثوابها التي لن ينازعنا فيه أحد لأنها نتاج أجيال وأجيال.   

 

إنتهى