Thursday 5 June 2025
اقتصاد

بريطانيا والمغرب: ولادة محور اقتصادي جديد في عالم ما بعد البريكسيت

بريطانيا والمغرب: ولادة محور اقتصادي جديد في عالم ما بعد البريكسيت الملك محمد السادس وعاهل بريطانيا
تشهد العلاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة والمملكة المغربية تحوّلاً عميقاً يؤذن ببروز محور استراتيجي جديد بين ضفتي الأطلسي، يتجاوز منطق المبادلات التجارية التقليدية نحو شراكة متعددة الأبعاد، تغذيها ضرورات جيو-اقتصادية، وتحفزها ديناميات الأسواق العالمية ما بعد البريكسيت. لم يعد التعاون الاقتصادي بين البلدين امتداداً لعلاقات تاريخية قديمة فقط، بل أصبح استجابة حديثة لمنعطفات حاسمة تشهدها الساحة الدولية.

مع مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، برزت الحاجة الملحة لدى لندن إلى إعادة بناء روابطها التجارية والمالية مع شركاء استراتيجيين خارج المنظومة الأوروبية. في هذا السياق، لم يكن اختيار المغرب اعتباطياً، بل مدروساً ضمن رؤية إعادة التموقع البريطاني في فضاءات تتميز بالاستقرار، والانفتاح، والقرب الجغرافي من أوروبا وإفريقيا. فالمغرب، ببنيته التحتية الحديثة، ومناخه الاستثماري الجذاب، واتفاقياته التجارية الممتدة مع العشرات من البلدان، يتيح لبريطانيا منفذاً مرناً نحو أسواق متعددة، خاصة في القارة الإفريقية.

الأرقام الأخيرة الصادرة عن الهيئات الاقتصادية في البلدين تعزز هذا التحول. فقد تجاوز حجم المبادلات التجارية الثنائية عتبة 3.1 مليار جنيه إسترليني سنة 2024، أي ما يعادل 39 مليار درهم مغربي، مسجلاً نمواً بأكثر من 45% مقارنة بعام 2020. ويعود هذا الارتفاع إلى تنوع سلة الصادرات المغربية نحو السوق البريطانية، وفي مقدمتها المنتجات الفلاحية والصناعات الغذائية ومكونات السيارات. ومن جهة أخرى، تشهد السوق المغربية تزايداً في واردات المعدات الصناعية والطبية والتكنولوجية البريطانية، بما يؤشر على تقارب تكاملي في احتياجات العرض والطلب بين الاقتصادين.

في موازاة ذلك، يبرز التحول في تدفقات الاستثمار البريطاني نحو المغرب كعلامة دالة على تعمق العلاقات الاقتصادية. فخلال خمس سنوات فقط، ارتفع حجم الاستثمارات البريطانية المباشرة من 80 مليون دولار سنة 2018 إلى ما يزيد عن 250 مليون دولار سنة 2023. وتتنوع هذه الاستثمارات بين الطاقات المتجددة، والتعليم العالي، والخدمات المالية، وهو ما يعكس انتقالاً من منطق التجارة إلى منطق التموقع الإنتاجي المستقر. المشروع الضخم لشركة Xlinks البريطانية لإنشاء كابل كهربائي بحري يربط المغرب ببريطانيا، والذي تقدر كلفته بـ22 مليار دولار، ليس فقط رمزاً لهذا التموقع، بل نموذجاً لمستقبل العلاقة: إنتاج مشترك، موجه للتصدير، قائم على الطاقة النظيفة، ويعكس رهاناً طويل الأمد.

ما يجعل هذه الشراكة واعدة أيضاً هو التكامل الاستراتيجي في الرؤية. فبريطانيا تبحث عن أسواق بديلة تُعوض القيود التجارية بعد البريكسيت، في حين يسعى المغرب إلى تنويع شركائه وتعميق دوره كبوابة للقارة الإفريقية. يتقاطع هذا الطموح مع التوجهات العالمية نحو التموضع الجغرافي الجديد لسلاسل الإمداد، والبحث عن شركاء مستقرين في زمن تتزايد فيه المخاطر الجيوسياسية في أوروبا الشرقية وآسيا.

التوقعات الرسمية تشير إلى احتمال مضاعفة المبادلات التجارية بين البلدين لتبلغ 6 مليارات جنيه إسترليني بحلول عام 2030. هذا النمو لن يكون رقمياً فقط، بل هيكلياً أيضاً، شرط أن تستثمر الدولتان في دعم التكامل الصناعي، وتشجيع المقاولات الصغيرة والمتوسطة على ولوج السوق الثنائية، وتفعيل أدوات تمويل بريطانية مثل “UK Export Finance”، مع مواصلة المغرب تحسين مناخ الاستثمار، وتوسيع نطاق المناطق الصناعية المتخصصة.

في المحصلة، إن العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا والمغرب لم تعد تندرج في خانة التعاون الجانبي أو الظرفي، بل أصبحت إرهاصات لبناء محور اقتصادي جديد، متعدد الوظائف، في منطقة تتقاطع فيها رهانات أوروبا، والفرص الإفريقية، والطموحات الأطلسية. وإذا ما استُثمرت هذه الدينامية بطريقة استراتيجية، فإن الرباط ولندن قد تتحولان، خلال العقد القادم، من شريكين تجاريين إلى حليفين اقتصاديين رئيسيين في صياغة معالم الاقتصاد الجديد للعالم المتوسطي الأطلسي.