في هذا الحوار، تسلط الأستاذة الجامعية والخبيرة الاقتصادية عائشة العلوي الضوء على تفشي الفساد في المغرب، مؤكدة أنه لم يعد مجرد خلل إداري بل أزمة قيم ومجتمع. وترى أن مؤسسات الرقابة موجودة لكنها تفتقر إلى الفعالية والإرادة السياسية. كما تحذر من تطبيع المجتمع مع الفساد واعتباره سلوكًا مقبولًا، وتدعو إلى مشروع وطني شامل لمحاربته ثقافيًا وتربويًا وسياسيًا، من أجل استعادة الثقة وبناء مستقبل نزيه وعادل.
على هامش قضية بيع الشواهد الجامعية، تثار في كل مرّة قضية البيع والشراء، في الانتخابات، كما في المستشفيات، وفي المناصب، وفي المدارس وغيرها، حتى صارت اللّهفة واللّهطة عملتان للفساد المُتفشي في كلّ شيء، بشكل يسيء للبلاد، ويضرب التعاقد داخل المجتمع المغربي. ما دلالات ذلك وكيف تقرأ ما حصل ويحصل؟
إن ما نشهده اليوم من تفشي مظاهر “اللّهفة” و“اللّهطة“ ـ وهما تعبيران شعبيان بليغان ـ ليس مجرد اختلالات في السلوك الفردي، بل تجل لانهيار المعايير الأخلاقية التي كانت تؤطر مفهوم المصلحة العامة. حين تتحول الشواهد الجامعية إلى سلعة، والمناصب إلى ريع، والانتخابات إلى صفقات، فإننا لا نتحدث فقط عن فساد إداري أو مالي، بل عن تصدّع عميق في البنية القيمية التي يفترض أن تُشكّل عماد دولة الحق والقانون.
الفساد في المؤسسات التعليمية/ الجامعات، هنا، لا يُفسد المعاملات فقط، بل يُفسد المعنى نفسه: معنى الجدارة والكفاءات، معنى الخدمة العمومية، ومعنى العيش المشترك. نحن أمام ما يمكن تسميته بـ “خصخصة الفضاء العمومي“، حيث يُقاس كل شيء بمنطق السوق: من يدفع أكثر، يحصل أكثر. بيد أن الأخطر هو أن هذا الوضع بدأ يجد له مبررات اجتماعية، بل وحتى “شرعية أخلاقية مزيفة“، تحت عناوين مثل: “هكذا تسير الأمور“، “كول أو فْلتْ“، ما يشير إلى تشكل وعي جماعي مغشوش يطبّع مع انحرافات خطيرة.
إنّ حماية الوطن، في ظل هذا السياق، لا تمر فقط عبر القوانين، بل تتطلب ثورة قيمية ومؤسساتية حقيقية، تستعيد فيها الدولة هيبتها الأخلاقية قبل سلطتها الإدارية، وتُبنى من جديد جسور الثقة مع المواطن(ة) باعتبارها الرأسمال الرمزي لأي مشروع تنموي مستدام وعادل.
كيف أن المغرب يتوفر على معمار رقابي كبير من نيابة عامة ومجلس أعلى للحسابات وهيئة وطنية للوقاية من الرشوة ومفتشيات عامة في كل القطاعات. لم تنفع في تطويق الفساد؟
المغرب لا يعاني من نقص في الهياكل الرقابية، بل من عطب في اشتغالها وانفصالها عن منطق الفعالية والمساءلة العادلة. إن وجود مؤسسات مثل المجلس الأعلى للحسابات، النيابة العامة، المفتشيات العامة، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة وغيرها، يشكل في حدّ ذاته اعترافًا دستوريًا ومؤسساتيًا بأن الفساد معضلة حقيقية. لكن، لماذا لم تُثمر هذه الهندسة الرقابية نتائج ملموسة؟ لأننا ـ ببساطة ـ نواجه ثلاث اختلالات متداخلة:
أولًا: غياب الإرادة السياسية الصلبة لتحويل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة والعقاب من شعار إلى ممارسة.
ثانيًا: انتقائية العدالة التي تلاحق الموظف(ة) البسيط(ة) بسبب رشوة عابرة، وتُغض الطرف عن كبار المستفيدين من اقتصاد الريع وصفقات مشبوهة.
ثالثًا: التعقيد الإداري والبنية البيروقراطية التي تُحوّل الرشوة من استثناء إلى “حل عملي“ في عين المواطن(ة).
ورغم ذلك، يجب أن نُفرّق بين نقد المؤسسات وتفكيكها. نعم، هناك خلل، لكنه لا ينبغي أن يدفعنا إلى العدمية أو فقدان الثقة في قدرة الدولة على الإصلاح. بل العكس، علينا أن نُطالب بإصلاح هذه المؤسسات وتعزيز استقلاليتها، لأن غيابها أو تحقيرها سيقود حتما إلى الفوضى وإلى تهديد تماسك الدولة نفسها. فالفساد في الجامعة أو في الانتخابات أو في الصحة “أو غيرها“ لا يُهدد فقط ميزانية الدولة، بل يُقوِّض أسسَ الأمن المجتمعي والشعورِ الوطني لدى المجتمع.
هل بهذا المعنى صار الفساد الرّكيزة الخامسة في البلاد، بل هناك من يعتبره أنه عقيدة داخل المُجتمع المغربي؟
حين يُطرح سؤال من قبيل: “هل صار الفساد عقيدة في المجتمع المغربي؟“، فإننا ندخل منطقة رمادية خطيرة لا تتعلق فقط بالممارسات، بل بالبُنى المجتمعية والثقافية التي تشرعن الفساد وتعيد إنتاجه. الفساد، في هذه الحالة، يتحول من فعل مُدان إلى موقف مُبرَّر، وأحيانًا مباح ومُمَجَّد. قد يُنظر إلى المرتشي(ة) على أنه(ها) “فْهّيم“، وإلى المسؤول(ة) الفاسد(ة) على أنه(ها) “ذكي يعرف من أين تؤكل الكتف“؛ بينما يُنظر إلى النزيه على أنه “ساذج“ أو “غير مندمج“.
هذه المؤشرات ليست بريئة. إنها تعني أننا نواجه تحولًا خطيرًا في منطق القيم الجماعية، حيث لم يعد الفساد حالة شاذة، بل قاعدة اجتماعية تُعيد إنتاج ذاتها عبر التنشئة، الإعلام، ونمط العيش. لكن، وهنا يجب أن نقولها بوضوح: ليست كل فئات المجتمع متورطة، وليست كل المؤسسات متواطئة. هناك مقاومة صامتة، من أطر نزيهة، من مواطنين شرفاء، من فاعلين يؤمنون بإصلاح هذا الوطن لا بتقويضه. ولذلك، فإن محاربة الفساد ليست فقط ضرورة إدارية، بل مشروع وطني جامع يتطلب تعبئة شاملة ثقافيًا، وتربويًا، وسياسيًا.
إننا بحاجة إلى مصالحة وطنية شاملة مع ذواتنا، نستعيد من خلالها هيبة النزاهة والشرف كقيم عليا، وننتشل المجتمع من براثن ثقافة التطبيع مع الفساد والرشوة، خاصة في ظل التحديات والأزمات المعاصرة، داخليا وإقليميا ودوليا.
إن مظاهر الفساد والرشوة التي تنفجر بين الفينة والأخرى، لا يجب أن تغفلنا بأن المغرب لا يفتقر إلى الإمكانات، بل إلى تفعيل إرادة وطنية شجاعة، تُعلي من المصلحة العامة على حساب الامتيازات الفردية، وتُؤمن بأن بناء مجتمع العدالة والنزاهة هو أساس بناء وطن المستقبل. فالرهان ليس فقط على “محاربة الفساد”، بل على بناء ثقافة مناقضة له، تُقدس الشفافية وتجرم التواطؤ الصامت. وإذا كان الفساد سرطانا، فإن العلاج لا يكون فقط بالكَي، بل ببناء مناعة مجتمعية، أساسها العدالة، والكرامة، والثقة.
إن ما نشهده اليوم من تفشي مظاهر “اللّهفة” و“اللّهطة“ ـ وهما تعبيران شعبيان بليغان ـ ليس مجرد اختلالات في السلوك الفردي، بل تجل لانهيار المعايير الأخلاقية التي كانت تؤطر مفهوم المصلحة العامة. حين تتحول الشواهد الجامعية إلى سلعة، والمناصب إلى ريع، والانتخابات إلى صفقات، فإننا لا نتحدث فقط عن فساد إداري أو مالي، بل عن تصدّع عميق في البنية القيمية التي يفترض أن تُشكّل عماد دولة الحق والقانون.
الفساد في المؤسسات التعليمية/ الجامعات، هنا، لا يُفسد المعاملات فقط، بل يُفسد المعنى نفسه: معنى الجدارة والكفاءات، معنى الخدمة العمومية، ومعنى العيش المشترك. نحن أمام ما يمكن تسميته بـ “خصخصة الفضاء العمومي“، حيث يُقاس كل شيء بمنطق السوق: من يدفع أكثر، يحصل أكثر. بيد أن الأخطر هو أن هذا الوضع بدأ يجد له مبررات اجتماعية، بل وحتى “شرعية أخلاقية مزيفة“، تحت عناوين مثل: “هكذا تسير الأمور“، “كول أو فْلتْ“، ما يشير إلى تشكل وعي جماعي مغشوش يطبّع مع انحرافات خطيرة.
إنّ حماية الوطن، في ظل هذا السياق، لا تمر فقط عبر القوانين، بل تتطلب ثورة قيمية ومؤسساتية حقيقية، تستعيد فيها الدولة هيبتها الأخلاقية قبل سلطتها الإدارية، وتُبنى من جديد جسور الثقة مع المواطن(ة) باعتبارها الرأسمال الرمزي لأي مشروع تنموي مستدام وعادل.
كيف أن المغرب يتوفر على معمار رقابي كبير من نيابة عامة ومجلس أعلى للحسابات وهيئة وطنية للوقاية من الرشوة ومفتشيات عامة في كل القطاعات. لم تنفع في تطويق الفساد؟
المغرب لا يعاني من نقص في الهياكل الرقابية، بل من عطب في اشتغالها وانفصالها عن منطق الفعالية والمساءلة العادلة. إن وجود مؤسسات مثل المجلس الأعلى للحسابات، النيابة العامة، المفتشيات العامة، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة وغيرها، يشكل في حدّ ذاته اعترافًا دستوريًا ومؤسساتيًا بأن الفساد معضلة حقيقية. لكن، لماذا لم تُثمر هذه الهندسة الرقابية نتائج ملموسة؟ لأننا ـ ببساطة ـ نواجه ثلاث اختلالات متداخلة:
أولًا: غياب الإرادة السياسية الصلبة لتحويل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة والعقاب من شعار إلى ممارسة.
ثانيًا: انتقائية العدالة التي تلاحق الموظف(ة) البسيط(ة) بسبب رشوة عابرة، وتُغض الطرف عن كبار المستفيدين من اقتصاد الريع وصفقات مشبوهة.
ثالثًا: التعقيد الإداري والبنية البيروقراطية التي تُحوّل الرشوة من استثناء إلى “حل عملي“ في عين المواطن(ة).
ورغم ذلك، يجب أن نُفرّق بين نقد المؤسسات وتفكيكها. نعم، هناك خلل، لكنه لا ينبغي أن يدفعنا إلى العدمية أو فقدان الثقة في قدرة الدولة على الإصلاح. بل العكس، علينا أن نُطالب بإصلاح هذه المؤسسات وتعزيز استقلاليتها، لأن غيابها أو تحقيرها سيقود حتما إلى الفوضى وإلى تهديد تماسك الدولة نفسها. فالفساد في الجامعة أو في الانتخابات أو في الصحة “أو غيرها“ لا يُهدد فقط ميزانية الدولة، بل يُقوِّض أسسَ الأمن المجتمعي والشعورِ الوطني لدى المجتمع.
هل بهذا المعنى صار الفساد الرّكيزة الخامسة في البلاد، بل هناك من يعتبره أنه عقيدة داخل المُجتمع المغربي؟
حين يُطرح سؤال من قبيل: “هل صار الفساد عقيدة في المجتمع المغربي؟“، فإننا ندخل منطقة رمادية خطيرة لا تتعلق فقط بالممارسات، بل بالبُنى المجتمعية والثقافية التي تشرعن الفساد وتعيد إنتاجه. الفساد، في هذه الحالة، يتحول من فعل مُدان إلى موقف مُبرَّر، وأحيانًا مباح ومُمَجَّد. قد يُنظر إلى المرتشي(ة) على أنه(ها) “فْهّيم“، وإلى المسؤول(ة) الفاسد(ة) على أنه(ها) “ذكي يعرف من أين تؤكل الكتف“؛ بينما يُنظر إلى النزيه على أنه “ساذج“ أو “غير مندمج“.
هذه المؤشرات ليست بريئة. إنها تعني أننا نواجه تحولًا خطيرًا في منطق القيم الجماعية، حيث لم يعد الفساد حالة شاذة، بل قاعدة اجتماعية تُعيد إنتاج ذاتها عبر التنشئة، الإعلام، ونمط العيش. لكن، وهنا يجب أن نقولها بوضوح: ليست كل فئات المجتمع متورطة، وليست كل المؤسسات متواطئة. هناك مقاومة صامتة، من أطر نزيهة، من مواطنين شرفاء، من فاعلين يؤمنون بإصلاح هذا الوطن لا بتقويضه. ولذلك، فإن محاربة الفساد ليست فقط ضرورة إدارية، بل مشروع وطني جامع يتطلب تعبئة شاملة ثقافيًا، وتربويًا، وسياسيًا.
إننا بحاجة إلى مصالحة وطنية شاملة مع ذواتنا، نستعيد من خلالها هيبة النزاهة والشرف كقيم عليا، وننتشل المجتمع من براثن ثقافة التطبيع مع الفساد والرشوة، خاصة في ظل التحديات والأزمات المعاصرة، داخليا وإقليميا ودوليا.
إن مظاهر الفساد والرشوة التي تنفجر بين الفينة والأخرى، لا يجب أن تغفلنا بأن المغرب لا يفتقر إلى الإمكانات، بل إلى تفعيل إرادة وطنية شجاعة، تُعلي من المصلحة العامة على حساب الامتيازات الفردية، وتُؤمن بأن بناء مجتمع العدالة والنزاهة هو أساس بناء وطن المستقبل. فالرهان ليس فقط على “محاربة الفساد”، بل على بناء ثقافة مناقضة له، تُقدس الشفافية وتجرم التواطؤ الصامت. وإذا كان الفساد سرطانا، فإن العلاج لا يكون فقط بالكَي، بل ببناء مناعة مجتمعية، أساسها العدالة، والكرامة، والثقة.