الجمعة 28 فبراير 2025
كتاب الرأي

سياسة الاحتكار وغلاء الأسعار.. بين اقتصاد الريع واستغلال الأزمات

سياسة الاحتكار وغلاء الأسعار.. بين اقتصاد الريع واستغلال الأزمات نجيبة قسومي
أصبح غلاء الأسعار في المغرب واقعًا يثقل كاهل المواطنين، خاصة مع الارتفاع المهول في أسعار المواد الأساسية مثل اللحوم، الأسماك، والزيوت، في مقابل تجميد الأجور وغياب سياسات اجتماعية ناجعة لحماية القدرة الشرائية. في قلب هذه الأزمة نجد سياسة الاحتكار التي يمارسها عدد من الفاعلين الاقتصاديين الكبار، مدعومين بشبكات نفوذ داخلية وخارجية، تضمن لهم التحكم في السوق وامتصاص الثروات على حساب الفئات الشعبية.
 
شهد المغرب في الفترة الأخيرة فضائح متعددة تعكس تجليات هذا الاحتكار، من بينها قضية السردين بمراكش، حيث عمد تجار إلى تخزين كميات هائلة بغرض خلق ندرة مصطنعة، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، في بلد يمتلك واجهتين بحريتين وغني بالثروة السمكية. كما أن قرار إلغاء عيد الأضحى لهذا العام بدعوى "قلة القطيع" يخفي وراءه إشكاليات أعمق تتعلق بالمضاربة في سوق الأعلاف وغياب سياسات زراعية عادلة، تجعل الأمن الغذائي بيد مجموعة ضيقة من المحتكرين. في هذا المقال، سنحاول تفكيك آليات الاحتكار في المغرب، تداعياته على الأسعار، وأبعاده السياسية والاقتصادية، قبل طرح سبل للخروج من هذه الحلقة المفرغة من الاستغلال والريع.
 
أولًا: الاحتكار في المغرب – آلية لضبط السوق لصالح الأقلية
1. احتكار المواد الغذائية: من يخنق السوق؟
تتحكم لوبيات قوية في سوق المواد الغذائية، وتلجأ إلى وسائل متعددة للتحكم في العرض والطلب، من بينها:
التخزين الاحتكاري: كما حدث في قضية السردين بمراكش، حيث عمدت بعض الجهات إلى شراء كميات ضخمة وإخفائها عن السوق إلى حين ارتفاع الأسعار. نفس السيناريو يتكرر مع الزيت، الطحين، وحتى قنينات الغاز، حيث يتم التحكم في تدفقها إلى السوق لإبقاء الأسعار مرتفعة.
 
التلاعب بأسعار الأعلاف والماشية: قبل سنوات، كان عيد الأضحى مناسبة دينية واجتماعية تمكن الأسر الفقيرة من تقاسم لحظات الاحتفال. اليوم، صار خروف العيد رفاهية بسبب مضاربة كبار الفاعلين في سوق الأعلاف وتهريب الماشية. في 2023، ارتفعت أسعار الأضاحي بسبب "قلة القطيع"، لكن الواقع يكشف أن جزءًا من هذه الأزمة مفتعل، حيث استغل المضاربون قلة العرض الناجمة عن الجفاف لرفع الأسعار بشكل غير مسبوق.
 
تحكم الشركات الكبرى في سلاسل التوريد: لا يمكن الحديث عن الاحتكار دون ذكر الشركات العملاقة التي تسيطر على سوق المواد الاستهلاكية الأساسية. شركات توزيع كبرى تحتكر الاستيراد والتوزيع، وتفرض أسعارًا غير مبررة، في ظل غياب أي مراقبة فعلية من الدولة التي تكتفي بإصدار بلاغات لا أثر لها على أرض الواقع.

2. غلاء أسعار المحروقات: نموذج فجّ لزواج المال والسلطة
ارتفاع أسعار المحروقات هو أحد أبرز الأمثلة على الاحتكار المقنن في المغرب. منذ تحرير الأسعار سنة 2015، بات سوق المحروقات تحت سيطرة حفنة من الشركات التي تتلاعب بالأسعار، رغم انخفاض كلفة الإنتاج عالميًا. في 2022، كشف مجلس المنافسة أن هذه الشركات حققت أرباحًا خيالية تجاوزت 45 مليار درهم خلال أربع سنوات، دون أن تتحرك الحكومة لفرض إجراءات ضريبية عادلة أو تسقيف للأسعار. هذا الوضع ينعكس مباشرة على القدرة الشرائية للمواطنين، حيث تؤدي كلفة النقل المرتفعة إلى زيادات متتالية في أسعار كل المنتجات الاستهلاكية.
 
ثانيًا: تداعيات الاحتكار وغياب سياسات التدخل الاجتماعي
1. ضرب القدرة الشرائية وإفقار الطبقة العاملة
في بلد ترتفع فيه البطالة ويعاني أكثر من 60% من السكان من الهشاشة الاقتصادية، يؤدي ارتفاع الأسعار إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لم يعد المواطن المغربي قادرًا على مواجهة تكاليف الحياة اليومية، في ظل الزيادات المستمرة التي لا ترافقها أي زيادات في الأجور، بل على العكس، تعمل الحكومة على تفكيك أنظمة الدعم المتبقية، كما حدث مع صندوق المقاصة، تمهيدًا لضرب الدعم عن غاز الطهي لاحقًا.
 
2. تفريغ السوق من المنتجين الصغار لصالح الرأسمال الكبير
لم يعد سوق الإنتاج والتوزيع في المغرب متاحًا للجميع. فلاحو القرى والمزارعون الصغار يعانون من الارتفاع المهول في أسعار البذور والأسمدة، ما يدفعهم إلى التخلي عن أراضيهم لصالح كبار المستثمرين الذين يحولون الفلاحة من نشاط يغذي السوق المحلي إلى نشاط موجه للتصدير فقط، كما هو الحال في منطقة سوس، حيث يتم توجيه إنتاج الطماطم والحوامض للأسواق الأوروبية بينما يعاني المغاربة من ندرة في الأسواق المحلية.
 
3. تعميق الفساد والزبونية في تدبير الأزمات
من بين مظاهر الاحتكار في المغرب أن كبار المضاربين غالبًا ما يفلتون من العقاب بسبب علاقاتهم السياسية والاقتصادية. عندما يتم ضبط كميات من السردين أو الزيت مخزنة بطريقة غير قانونية، يكتفي المسؤولون بإصدار تقارير إدارية دون أن نرى عقوبات حقيقية. هذا الأمر يفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى استقلالية مؤسسات الرقابة ومدى قدرتها على مواجهة نفوذ "الحيتان الكبيرة".
 
ثالثًا: نحو نموذج اقتصادي بديل – كيف نكسر الاحتكار؟
مواجهة الاحتكار تتطلب حلولًا جذرية، تتجاوز الحلول الترقيعية التي تعلن عنها الحكومة بين الفينة والأخرى. من بين الإجراءات التي يمكن اعتمادها:
1. تعزيز دور الدولة في ضبط القطاعات الاستراتيجية:
لا يمكن ترك السوق رهينة لأرباح الرأسمال الكبير. يجب على الدولة استعادة دورها في تنظيم سوق المحروقات والغذاء عبر سياسات تحمي المستهلك وتعزز العدالة السعرية.

2. تشديد الرقابة وإعادة هيكلة مجلس المنافسة:
يجب منح هذا المجلس سلطات تنفيذية حقيقية، تجعله قادرًا على فرض غرامات كبيرة على المحتكرين، بدل الاكتفاء بتقارير غير ملزمة.

3. إعادة إحياء الدعم العمومي للمواد الأساسية:
من غير المقبول أن تستمر الحكومة في نهج "تحرير الأسعار" دون سياسات موازية لحماية الفئات الفقيرة. يجب إعادة دعم الحاجيات الأساسية بدل تركها لقانون العرض والطلب الذي يخدم فئة محدودة فقط.

4. تشجيع الفلاحة المحلية الموجهة للاستهلاك الداخلي:
بدلاً من توجيه الأراضي الصالحة للزراعة نحو الصادرات، يجب دعم الفلاحين الصغار وتشجيع الإنتاج المحلي لضمان الأمن الغذائي للمغاربة أولًا.
 
ختاما
الاحتكار في المغرب ليس مجرد خلل اقتصادي، بل هو جزء من منظومة ريعية مترسخة، تخدم مصالح طبقة محدودة على حساب الغالبية العظمى. من قضية السردين في مراكش إلى المضاربة في القطيع وارتفاع أسعار المحروقات، يتضح أن الاقتصاد المغربي يسير في اتجاه يخدم الرأسمالية المتوحشة على حساب المواطنين البسطاء. الحل لا يكمن في البلاغات الحكومية أو اللجان الصورية، بل في تبني سياسات جذرية تنهي هيمنة الأقلية على قوت الشعب، وتعزز العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
 
 
نجيبة قسومي /عضو المجلس الوطني لحزب فدرالية اليسار