"الرواية درس وجودي عظيم، أوجدت لنفسها مكانة ضمن ما كان يعد إبداعا، وصارعت كي تؤكد أن الإبداع لا يؤمم ولا يغلق ولا يقبل الإدعاء بالتملك ورسم الحدود الفاصلة والنهائية..."، بهذه الجملة عبر الكاتب والناقد السيميائي جمال بندحمان عن موقفه من الرواية كجنس أدبي في كلمته التي ألقاها خلال اللقاء النقدي لروايته الأولى "محنة ابن اللسان" الصادرة عن دارافريقيا الشرق. اللقاء الذي نظمه " مركز أجيال 21 للثقافة والمواطنة" يوم السبت 22 فبراير 2025، واحتضنه مركز التربية البيئية لمدرسة الغزالي بمدينة المحمدية بحضور عدد كبير من الكتاب والنقاد والمهتمين.
الرواية التي تقدم، حكايات الكلاميين الذين يجعلون الكلام سلعتهم بها يُعَلِّمون، أو يُرافِعون، أو يُحللون، أو يُخْبِرون، أو يُراقِبون ويستخبرون، أو يحكون. لكن سلعتهم هي علة محنتهم؛ لأن الآخرين يعدونها سلاحا ينبغي إبطاله، وحرية ينبغي سجنها، وصوتا ينبغي إخراسه، ولسانا ينبغي قطعه.
المعلم والصحفي والمحامي والراوي … أربعة جامعهم اللسان، وابنه (الكلام). مِهَنُهم مختلفة، ومرجعياتهم متباينة، لكن مآلاتهم متشابهة، وخصومهم متماثلون… لذلك أصر الراوي على حكي حكاياتهم ومحنهم، فأصروا على أن يكون واحدا منهم، وأن تُحْكَى حكايته كذلك؛ لأنهم شركاء في سلعة الكلام، وفي فضاءاته، ومآلاته، ومحنه.
تتقاطع مساراتهم وصفاتهم......ومعهم تحضر سيرة سياق الكلام والتعبير ليعيش (ابن اللسان) محنته التي تحكيها الرواية. ويستعد الكاتب جمال بندحمان لإطلاق روايته الثانية تحت عنوان "يوبا العربي".
الورقة النقدية الأولى في هذا اللقاء النقدي قدمها الكاتب والاعلامي سعيد منتسب، مؤكدا فيها على أن الروائي جمال بندحمان : "يمزج في "محنة ابن اللسان" بين التفكير من داخل الرواية، والتفكير من خارجها، لكن بصوتها، وليس للبرهنة على فكرة معينة، ما دام الحكي يمضي في اتجاه منظوري، وما دام المسار الحكائي ينهض على اتساع وجهات النظر وتعددها، إذ يطرح على نفسه وعلينا أيضا، علاقة الجمالي بالاجتماعي، والتقني بالكتابي، والأدبي بالتاريخي، والمجازي بالحقيقي والواقعي بالأسطوري، في حوارية متناعمة تعبر عن موقف نقدي وحبكة مفكر فيها، وتطريز فني شكلي يخترق السرد التقليدي، ويلحقه بالسرد ال ما بعد حداثي، الذي يسابق المنجز الروائي العام بسيقان متعددة...)
مضيفا : ( إن إقتحام هذه الرواية، من ألفها إلى يائها، يتطلب بحثا متجددا عن علاقة الأدب بالنقد، وعن حيوية الأصل النظري وكثافة تطبيقاته وغنى دلالاته وتأتيراته على المحكي، سردا ووصفا وبناء ونظاما رمزيا، فرغم أن " لا شيء يوجد خارج النص، كما يقول دريدا، فإن العودة إلى بعض كتابات جمال بندحمان ملهمة لفك الاشتباك بين المؤلف/ الراوي والمؤلف / الناقد، في هذه الرواية. وهنا نستحضر كتابه سيمياء الحكي المركب ويقصد بالحكي المركب ذلك الحكي الذي يتجاوز التصنيفات الخطية التي تنطلق من تصور ضيق للخطابات وأنواعها، كما أن هذه التصنيفات نفسها تصبح في وضع الأزمة عندما تواجه خطابات متشعبة ومركبة على نحو ما قدمته الرواية الجديدة، أو ما قدمه الشعر المنثور، أو ما يمكن أن تقدمه إعادة النظر في الكثير من الخطابات التي تم تصنيفها ضمن هذا النوع أو ذالك)...
من جهته قدم الكاتب والباحث عبد الغني عارف خلال هذا اللقاء النقدي حول رواية "محنة ابن اللسان" ورقة عنونها ب "الكلام حين يحيي ويميت" أكد فيها على كون (الكاتب في هذا النص لا يحمل اللغة أكثر مما تستوعبه أصلا، وحتى في استحضاره لنصوص ثراثية ولأمثال ومقولات شعبية فإنه يجعلها لصيقة بفكرة يفجرها في سياق النص ليجعل منها شاهد إثبات على موقف محدد من قضية محددة..." وعن الشخصيات في هذه الرواية يقول الراوي: (تتقاطع سير ومسارات الشخصيات في هذا النص الروائي لتجد نفسها تحت مقصلة واحدة: لعنة الكلام ! فالجامع بين الشخصيات كلها أنها محكومة بحكمة الكلام ولعنه في الآن نفسه، فبقدر ما تعطيهم قدرتهم على الكلام مكانة خاصة في تراتبية الهرم الاجتماعي، بقدر ما يتحول ذلك الكلام نفسه إلى أداة لتهديد وجودهم، ولذلك فهي شخصيات لا وجود لها خارج القلق،...لذلك لا نجد شخصية محددة لها صفة البطولة المركزية في هذا النص، فنحن أمام شخصيات تتناول على البطولة، أو في أحسن الأحوال، تتقاسم متطلبات هذه البطولة انطلاقا من المساحات المتاحة لها للحكي، سواء أكانت هي التي تحكي أم كانت موضوع الحكي من لدن الشخصيات الأخرى الموازية، وهي بقدر ما تتقاسم البطولة ف‘إنها في الحقيقة تتقاسم مضاعفات المأزق المشترك بينها جميعا...).
وتحت عنوان "لماذا نكتب؟ ولماذا محنة ابن اللسان؟" قدم الناقد والروائي جمال بندحمان كلمته في هذا اللقاء، لخصت موقفه من الكتابة والرواية بالقول: (الأفق المأمول هو الدفاع عن ثقافة التفاعل والعيش المشترك واختيار التواصل بدل القطيعة، لأنه كما يقول باشلار: للعلم سن مسبقاته، أي أنه من داخل مفهوم القطيعة نفسه يمكن الحديث عن التفاعل والتشاكل...وهذا الأفق العام هو الذي يوجه اختياراتي النقدية في كتب الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري وسيمياء الحكي المركب...والسيمياء وآليات تشييد المعنى.." . مؤكدا بأن الرواية درس وجودي عظيم، أوجدت لنفسها مكانة ضمن ما كان يعد إبداعا، وصارعت كي تؤكد أن الإبداع لا يؤمم ولا يغلق ولا يقبل الإدعاء بالتملك ورسم الحدود الفاصلة والنهائية...بل هي درس في الوجود يعني ألا شيء نهائي وألا تخوم بين إطار وإطار ....إنه درس الرواية كما نظر له ميخائيل باختين الذي أكد أنها ذلك الإطار المنفتح على مختلف الأشكال والقوالب. وأنها الجنس الهجين الذي يكسر سلطة النوع والجنس ويولد أشكالا حكائية جديدة..."
وتحدث الناقد والباحث جمال بندحمان عن اختياراته الروائية قبل أن يؤكدها بالقول " إن روايتي الجديدة التي ستصدر بعد أيام بعنوان (بويا أعراب) تحكي ما طمس من حكايات الأصول والانتماءات والهويات، ...تجاور حكاية جمال عبد الناصر حكاية بويا أعراب، وتتقاطع حكاية المشرق مع حكاية المغرب، وتحضرالأندلس وفتن إحراق ما دون هناك، لتقدم عالما ممكنا يغاير ما رسخ في الأذهان وما يؤسس لانعزالية قاتلة وادعاء يؤسس للفتن...ويعاد الاعتبار لجغرافية البوادي المطمور ذكرها..".
جدير ذكره بأن الدكتور والكاتب جمال بندحمان أستاذ التعليم العالي في جامعة الحسن الثاني ــــ الدار البيضاء، إصداراته متعددة ومتنوعة بين النقدي والتربوي والإعلامي، ويعتبر صاحب مشروع نقدي يتناول الخطابات الأدبية بآليات منهجية تستند إلى السيميائيات التأويلية، والدراسات التداوليات، والعلوم المعرفية، إلى جانب اهتمامه بالخطابات المدنية والتربوية باعتباره مثقفا وفاعلا يتابع عن كثب، ناقدا ومحللا، تحولات المجتمع المغربي ومؤسساته.الكاتب العام لمنتدى المواطنة، الكاتب العامّ للمركز المغربيّ لحوار الثقافات وتنمية القيم. من أهم أعماله النقدية كتاب "الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري التشعيب والانسجام" و "سيمياء الحكي المركب البرهان والعرفان".
خبير في المجال المدني، أشرف على العديد من الدورات التدريبية بالمغرب وخارجه في مواضيع مثل (الحقوق اللغوية والثقافية، آليات مناهضة التطرف، التنوع الهوياتي وأسس التعايش- التدبير التشاركي، قيم المواطنة، الحق في المعلومة...)