السبت 22 فبراير 2025
كتاب الرأي

عبد الخالق حسين: تأملات أخلاقية في زيارة عامل طانطان لحفل المجلس العلمي

عبد الخالق حسين: تأملات أخلاقية في زيارة عامل طانطان لحفل المجلس العلمي عبد الخالق حسين، رئيس المجلس العلمي لطانطان 
كاد يوم السبت 15 فبراير 2025، تنعدم فيه الرؤية بسبب رياح شرقية محملة بالغبار  نطلق عليها (رياح الشرقي) أو لعجاج.. لكن الرؤية نوعان رؤية بالعين الحاسة المادية التي في الرأس؛ ورؤية عقلية وقلبية وروحية يطلق عليها البصيرة.. وقد كان يوم السبت ذاك، يوم انفتاح بصيرتنا نحن أبناء الطنطان.. 

دعوني أبسط إليكم تفاصيل مجريات يوم ليس كالأيام.. بعد أن وضعنا آخر اللمسات للحفل التربوي والترفيهي الذي سيقيمه المجلس العلمي بالمركب الاجتماعي، الاميرة الجليلة لالة أمينة، والمتواجد ببناية مقر القيادة الاستعمارية الإسبانية سابقا؛ بتعبير أهل الطنطان (السبيطار الصغير)؛ وبعد أن اشتغل فريق من خيرة أطر وعالمات وعلماء المجلس العلمي: مريم العلاوي وفاتحة لشكر وفاطمة الزهراء بومهدي ووفاء قادم وعبد المالك الرقيبي والغالية سالكي طيلة أيام للتحضير لهذا الحفل البهيج؛ حيث اتفق على تنويع الأنشطة بين السمعية من أناشيد ومديح وقراءات قرآنية ومسابقات مهارية مثل الرسم والتلوين و"حس- حركية" مثل ألعاب تسديد الكرات والتدريب على التركيز وكذا التدرب على مهارات التسوق.. كما استهدف المجلس العلمي الجانب الوجداني بالاهتمام بخلق الفرجة وتقديم الحلويات وهدايا عبارة عن لوازم النظافة والاعتناء بالأناقة الشخصية من خلال (باقة كاملة للوازم الحمام)..

على الساعة الثالثة والنصف بعد زوال، كان بهو المركب الاجتماعي الفسيح والجميل مؤثثا بأنواع الحلويات والهدايا ومعدات التباري والمسابقات، جلس أطفال المركز بشكل دائري على أربع طاولات، كل طاولة تحمل اسم فريق؛ في الجهة المقابلة جلست ضيفات الحفل وهن أمهات مع أطفالهن؛ وترك بهو فارغ لإجراء المسابقات وصفت كراسي على يمين الداخل إلى الفضاء معدة لجلوس طاقم المركز وفضيلة رئيس المجلس العلمي وأعضاء المجلس المرافقين له؛ الاستاذ الحنصالي والأستاذ سليمان لفقير.. كان التقني المسؤول عن الصوتيات قد طلب إمهاله بعض الوقت لإصلاح عطب في جهاز الصوتيات؛ و كنا نسمع همساته المتقطعة وهو يجرب الميكروفون: (باسم الله.. باسم الله.. السلام.. السلام عليكم..).. إلى هذه اللحظة الأمور تجري كما هو متفق عليه..

لكن فجأة نخبر من طرف الباشا بهذا الخبر: "السيد عامل الإقليم يستأذنكم للمشاركة معكم في الحفل"؛ ثم يضيف :" المرجو التريث بضع دقائق حتى  يلتحق بكم؛ فهو في الطريق إلى هنا"
في الحقيقة؛ غمرني شعور بالبهجة ممزوجا بالصدمة؛ كيف لنا أن نستقبل السيد عامل الاقليم بدون حد أدنى من البروتوكول الذي يليق بضيف عزيز مثله؛ فنحن في الطنطان نعتبر الضيف "أهل" لكل مظاهر  الترحيب والكرم والجمال والجلال..

أنقدنا الموقف (بجيرة من لبن)، و(طبق من تمر) صفف على عَجل؛ وكنا قد البسنا بعض الأطفال "لباس شرطي" و"دركي" و"فقيه" ولباس "عروسة" لفتاة من قبل؛ فجعلناهم في مقدمة المستقبلين للسيد العامل؛ وقد أعجب عندما رفعوا له "التحية الرسمية" عند مدخل المركب التربوي؛ وانحنى مبتسما يقبلهم ويسألهم متفكها عن رتبهم ومهامهم في الإدارة..

خرجنا لاستقبال السيد العامل فكانت المفاجأة أنه قادم لوحده بدون وفد ولا بروتوكول؛ وبلباس أنيق غير رسمي.. كانت أولى كلماته: "اسمحوا أن أشارككم هذا الحفل؛ وأنا أزوركم بصفتي الشخصية"..
 
التحقنا بالكراسي؛ وافتتح الحفل بتلاوة عطرة لآيات بينات تلتها إحدى المقرئات المحبرات؛ بعدها انتصبنا وقوفا للاستماع للنشيد الوطني؛ بعد كلمة رئيس المجلس العلمي وكلمة مدير المركب التربوي؛ انطلقت الأنشطة الترفيهية التي يشارك فيها أطفال المركز؛ ما إن بدأت المنافسات تحتدم بين الأطفال حتى وقف السيد العامل وأشار علي قائلا :" هيا نشارك الأطفال فرحتهم !!" .. ثم انحشر وسط الاطفال يلاعب هذا وينافس هذا ويناقش هذا بشكل جعل الأطفال يتفاعلون معه ويدمجونه في اللعب..
 
ترددنا في البداية ولكن عندما لاحظنا إعجاب الأطفال بسلوك السيد العامل وتفاعلهم معه بالابتسامة والتجاوب؛ قمنا جميعا وانخرطنا في الفرح والبهجة الجماعية؛ تذكرت قول سيدنا عمر بن الخطاب:( إذا خلونا الى أبنائنا؛ تصابينا) أي عندما نكون مع أبنائنا نلاعبهم لعب الصبيان..
 
جاءتنا المنشطة للحفل الاستاذة المرشدة التابعة للمجلس العلمي بمد من الدراهم ووزعت على كل منا بعضها وطلبت منا أن نعطيها للأطفال ليتوجهوا الى "دكان بقالة" هناك في زاوية بالمركب لنعلمهم أدب التسوق؛ وزعنا الدراهم على الأطفال؛ فقام السيد العامل يمسك بيد هذا ليشتري حلوى؛ ويحمل هذا في حضنه ليختار بنفسه ما يحب من أنواع البيسكوي.. نعم؛ لقد قدم السيد العامل انموذجا فريدا في القرب والاندماج في عالم الطفولة البريء والفطري.. وقد همس في أذن :" ينبغي الانتباه جيدا للصحة النفسية للطفل؛ فهي أساس لبناء الشخصية." وهذا كلام لا يصدر إلا عن خبير في علم النفس التربوي.. وكنت أظن أنني بجانب رجل خبير في علم السياسة والتدبير المجالي..
 
بعد فقرات متنوعة عبر فيه أطفال المركز ومربياته عن انسجام رائع وتناغم شيق؛ قمنا مع السيد العامل بجولة حول مرافق المركب قدم لنا خلالها الأستاذ زكريا الليلي شروحات وافية عن تاريخ المركب وخدماته المستهدفة للأطفال؛ وقد أبان السيد المدير عن خبرة وكفاءة عالية ومسؤولية صارمة مبنية على حس أخلاقي راق في إدارة مؤسسة تحتاج توليفة من الشفافية الايمانية والحس الانساني والعمق الأخلاقي..
 
كنت أستمع بإمعان للمجهودات الجبارة التي تقدمها العصبة المغربية وأقول في نفسي: "إذا أراد الله تصريف خير يصطفي له من يحب من عباده؛ والقائمين على هذا المركب من هؤلاء المصطفين؛ فهنيئا لهم."..
 
أعجبني سلوك السيد العامل، كلما ذكر له إكراه او عائق في مسيرة المؤسسة، يجيب: "اعتبروا هذا الأمر محلول في القريب".. سمعت المسؤول يقول:"نحتاج مشرفة على المطبخ" فأجاب السيد العامل:" سوف تلتحق بكم إن شاء الله في القريب"..

 
بعد الاستمتاع بهذه الجولة؛ وكأس شاي.. قدمت له هدية عبارة عن مصاحف محمدية باللغة الانجليزية والفرنسية والعربية و حامل مصحف خشبي وسجادة.. وشكرته على تشريفه لنا و للمركز بزيارته المباركة المفاجئة..
رفع الفقيه الطاهر الحنصالي الدعاء لمولانا أمير المؤمنين محمد السادس أعزه الله..
وكان الختام هو المفاجأة الكبرى للجميع.. فأمام نظر الأطفال والأمهات و المربيات والعالمات انحنى السيد العامل بكل تواضع ليجمع من ساحة المركز (المخلفات) من أوراق وغيرها؛ وهو يبتسم قائلا: "ينبغي أن نعطي القدوة لهؤلاء الأطفال" !! اندهش الجميع للحظات لهذا السلوك الذي ينم عن شخصية "عامل إقليم" لم نر مثلها من قبل!!
شخصية تجمع بين المسؤولية والتواضع والقرب من الناس.. أو لنقل شخصية شعارها "إن الله لا يغير ما بقوم؛ حتى يغيروا ما بأنفسهم"..

 
صدقوني؛ شخصية انتظرناها.. وانتظرها إقليم طانطان زمنا طويلا.. ويبدو أن الطنطان دخل زمن الزيارات المفاجئة.. وما يليها من "النهايات المفاجئة"؛ نسأل الله حسن الخاتمة..
وربما يصدق علينا وعليها؛ قول العارف بالله سيدي بن عطاء الله السكندري: "ربما منعك؛ فأعطاك".