الخميس 13 فبراير 2025
كتاب الرأي

مصطفى عنترة: المبادرة الأطلسية الإفريقية.. رهان استراتيجي على التكامل والازدهار المشترك

مصطفى عنترة: المبادرة الأطلسية الإفريقية.. رهان استراتيجي على التكامل والازدهار المشترك مصطفى عنترة
يشكل "إعلان الرباط"، الصادر عن اجتماع رؤساء البرلمانات الوطنية للدول الإفريقية الأطلسية الذي احتصنه البرلمان المغربي في الايام الاخيرة، خطوة محورية في مسار تعزيز التعاون القاري، حيث يجسد رؤية استراتيجية تهدف إلى تحويل الساحل الأطلسي الإفريقي إلى فضاء متكامل اقتصاديًا وجيوسياسيًا.
هذه المبادرة، التي أطلقها صاحب الجلالة الملك محمد السادس(حفظه الله)، تتجاوز كونها مجرد مشروع اقتصادي إقليمي، إذ تمثل تصورًا متكاملاً يرمي إلى إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية بين دول القارة، وتعزيز استقلالية إفريقيا عن الأنماط التقليدية للتنمية، مما يؤهلها لتصبح فاعلًا رئيسيًا في المشهد الاقتصادي العالمي.
وتأتي هذه المبادرة النوعية في سياق عالمي مضطرب يتميز بتصاعد سياسات التكتلات الاقتصادية الكبرى، واحتدام الصراعات الجيوسياسية، فضلًا عن الأزمات المناخية والاقتصادية المتفاقمة، حيث تواجه إفريقيا تحديات متزايدة تتجلى في النزاعات المسلحة، والتهديدات الإرهابية وما يرتبط بها من هجرة غير نظامية وانتشار الجريمة المنظمة( الاتجار في السلاح والبشر والمخدرات..)، والتغيرات المناخية التي تؤثر على الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي، إلى جانب ضعف البنية التحتية الاقتصادية، مما يعيق قدرتها على جذب الاستثمارات.
ورغم هذه التحديات العديدة، تظل القارة الإفريقية غنية بالموارد الطبيعية والاستراتيجية، فهي تمتلك أراضٍ زراعية خصبة، ومعادن نادرة ضرورية للصناعات التكنولوجية المتقدمة، وموارد طاقية هائلة، كما تتميز بتركيبة ديموغرافية شابة تمثل قوة عمل واعدة يمكنها أن تكون محركًا رئيسيًا للتنمية.
وتسعى المبادرة الأطلسية إلى خلق بيئة استثمارية مواتية عبر تطوير البنية التحتية وتعزيز الشراكات العادلة مع القوى الاقتصادية العالمية، حيث ترتكز على عدة محاور رئيسية، تشمل تعزيز التكامل الاقتصادي الإفريقي عبر مشاريع كبرى مثل مشروع أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، الذي يربط 13 دولة إفريقية بأوروبا، وسيساهم في تحقيق الأمن الطاقي، إضافة إلى مبادرة تمكين دول الساحل الإفريقي من الولوج إلى المحيط الأطلسي، مما يسمح بفك العزلة عن الدول غير الساحلية ودعم ديناميكية التجارة والاستثمار داخل القارة.
كما تركز هذه المبادرة على تطوير قطاعات حيوية مثل الاقتصاد الأزرق، الطاقة المتجددة، والبنية التحتية البحرية، ما يتطلب إصلاحات قانونية، واستراتيجيات تمويل مبتكرة، وتطوير قدرات الحكومات الإفريقية على إدارة المشاريع الكبرى.
ولهذا فدور البرلمانيين في إنجاح هذه المبادرة جوهري، وهو ما أشار إليه "إعلان الرباط" من خلال التأكيد على أهمية انخراطهم في دعم وتفعيل المبادرة عبر ثلاثة محاور رئيسية: الترافع الدولي من خلال استثمار المنصات البرلمانية الإقليمية والدولية للترويج للمبادرة وجذب المستثمرين، تهيئة الإطار القانوني من خلال سن تشريعات تحفّز الاستثمارات في القطاعات الاستراتيجية وتبسيط الإجراءات الجمركية، وأخيرًا ضمان الاستدامة عبر إحداث آليات تقييم دورية لرصد التقدم، وضمان تنفيذ المشاريع وفق المعايير المطلوبة.
وفي هذا السياق، تقرر إنشاء شبكة برلمانية إفريقية أطلسية تعمل على تنسيق الجهود التشريعية وتعزيز التعاون بين الدول الأطلسية الإفريقية لضمان التنفيذ الفعلي للمشاريع الاستراتيجية.
إن هذه المبادرة تتماشى في اهدافها الإستراتيجية مع الرؤية الملكية السديدة التي تؤكد على ضرورة اعتماد إفريقيا على إمكاناتها الذاتية، حيث ما فتء جلالة الملك محمد السادس في اكثر من مناسبة يذكر على أن القارة الإفريقية لم تعد قارة مستعمرة، بل عليها أن تثق في إمكانياتها وقدراتها لتحدد مصيرها الاقتصادي والسياسي.
ولذلك، فإن المبادرة الأطلسية ليست فقط مشروعًا اقتصاديًا، بل هي ركيزة أساسية لبناء إفريقيا جديدة، أكثر استقلالية وقوة. فالتحدي الأكبر يكمن ليس في امتلاك الموارد، ولكن في القدرة على تحويلها إلى قيمة مضافة حقيقية تنعكس إيجابيًا على حياة الشعوب الإفريقية عبر خلق فرص العمل، وضمان التعليم والصحة، وتحسين جودة البنية التحتية، بما يحقق تنمية شاملة ومستدامة.
تشكل المبادرة الأطلسية فرصة غير مسبوقة للقارة الإفريقية لإعادة التموقع على الخارطة الاقتصادية العالمية عبر استثمار موقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة بطريقة أكثر فاعلية.
غير أن نجاحها يتطلب إرادة سياسية قوية، ورؤية موحدة، وشراكات مستدامة بين الدول الأطلسية الإفريقية، حيث يمكن من خلال انخراط البرلمانيين والقادة الأفارقة أن تتحول هذه المبادرة الطموحة إلى مشروع قاري رائد يضع إفريقيا على مسار التكامل الاقتصادي والازدهار المشترك، ويجعل منها قوة صاعدة قادرة على رسم مستقبلها بثقة وإصرار، ليصبح بذلك الحلم الإفريقي واقعًا ملموسًا، قادرًا على تحقيق التحول المنشود في الاقتصاد العالمي.

مصطفى عنترة، باحث جامعي وإعلامي.