الخميس 13 فبراير 2025
كتاب الرأي

محمد كلاوي: بؤس السياسة في زمن الطغيان

محمد كلاوي: بؤس السياسة في زمن الطغيان محمد كلاوي

هل ماتت الرأسمالية بموت المبادئ التي تأسست على قواعدها؟ ماذا أصبح موقع النظرية الماركسية التي تنبأت بالموت الحتمي لهذا النمط الاقتصادي تفعيلا للمادية الجدلية والتي انهارت الأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي قامت على أساسها بعدما أكدت أنها ستحل محل الرأسمالية؟ هل أصبحت متجاوزة "على المستوى الإيديولوجي" لحد جعل ماركس نفسه يتساءل منذ البداية عما إذا كان فعلا ماركسيا؟

هي أسئلة على بساطتها قد تختلف الأجوبة بشأنها: أولا لآن الماركسية قد شابتها تحريفات سواء من طرف دعاة الانتماء للماركسية أو من طرف المناهضين لها، ثانيا لكون الدول التي اعتنقت الشيوعية لم تقم بناء على التطور التاريخي الذي يفترض الانتقال من نمط الإنتاج البدائي إلى العبودية فالفيودالية والرأسمالية ثم الشيوعية، التي تنتهي فيها الطبقات لصالح البروليتاريا ما دام أنها تتشكل من الأغلبية. ومعلوم أن مرحلة دكتاتورية البروليتارية التي ابتكرها لينين قد عصفت بالمنهجية التدرجية للماركسية، ومن الجائز أيضا آن نؤكد على محدودية الفكر الماركسي على اعتبار أنه ما كان بمستطاعه التنبؤ بما سينجم عن الثورة الصناعية من مخلفات أبرزها الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، اللذان خلخلا أو على الأقل أعادا توجيه البنيان المفاهيميي والعملي للنظرية الماركسية من قبيل الصراع الطبقي والوعي الطبقي وفائض القيمة والبنى السفلى والعليا... وبالرغم من كل هذه النقائص فليس هناك ما يلغي بالمطلق احتمال عودة الفكر الماركسي مستقبلا بشكل أو بآخر، ذلك لآن ماركس خلف منهجية اقتصادية يستحيل تجاوزها في نقد الليبرالية الجديدة. فالدولة من هذا المنطلق لن تكون سوى نتيجة للتحولات المجتمعية وليست كائنا طبيعيا، ولهذا فهي آلية استغلال طبقة الذين لا يمتلكون سوى قواهم الجسدية (البروليتاريا) لصالح الذين يملكون وسائل الإنتاج (البورجوازية الرأسمالية).

لهذا أعتقد بان الارتهان فقط ببعض جوانب مساهمة ماركس النظرية، يلغي أو يتجاهل الواقع الاجتماعي الذي يشكل صلب الفكر الماركسي في نقد الليبرالية الجديدة. فيكفي أن نقر باستحالة التغاضي عن مساهمات ماركس في تطور علم الاجتماع الحديث، لنفهم عدم إمكانية أي مؤرخ أو عالم اجتماع أو أنثروبولوجي الاشتغال في مجال تخصصه، حتى في حال تعارضه وانتقاده للأطروحة الماركسية، دون استحضار أنماط الإنتاج والعلاقات الاقتصادية وبنية الطبقات الاجتماعية... لا يجب أن يغيب عن الأدهان أن كل المكتسبات التي تحققت للطبقة الشغيلة خلال القرن التاسع عشر كتخفيض ساعات العمل، والتعويضات عن المرض، والعطل المؤدى عنها... ما كان لها أن تكون لولا الحركات النضالية للعمال المستلهمة من التحاليل النقدية الماركسية.

وبالرغم من الانتقادات التي لحقت الماركسية، وخصوصا تأرجحها بين عدة حقول معرفية كالتاريخ والاقتصاد وعلم الاجتماع التي لا يتجاوز فيها أصحابها حدود اختصاصهم، فقد سيطرت على المجال الفكري بمختلف مشاربه، منذ القرن التاسع عشر حتى نهاية العقد السابع من القرن العشرين، حتى من لذن ألذ معارضيه وعلى رأسهم ريموند آرون.

وفي هذا السياق يرتئي البعض (ها برماس ) أنه بالإمكان إعادة بناء المادية التاريخية كنظرية عامة للتاريخ. والسؤال المطروح هو هل آن الأوان للعودة إلى منظومة الصراع الطبقي؟

هناك فعلا عدة عوامل قد تساعدنا في فهم الأزمة التي تضرب الرأسمالية أو الليبرالية الجديدة في الوقت الراهن نسوق من أبرزها:

. تفاقم التفاوت الطبقي في التطام الاقتصادي الرأسمالي:

. في ظل الليبرالية الكلاسيكية، كانت الدول تلعب دور الضابط للسوق كلما حلت أزمة اقتصادية حادة مثل ما حدث إبان الأزمات المالية المتكررة في سنوات 1929 و2008. لكن أزمة كورونا أظهرت مدى محدوديتها في تدبير خطط الإنقاذ نظرا لتراجع الاستثمار في مجال الصحة وغياب النظرة الاستشرافية في تقليص نفوذ الشركات الخاصة. وقد أدى تراجع الدولة إلى إفراز جيل جديد من المحتكرين الخواص الذين هيمنوا على جل مرافق الاقتصاد والذين عملوا على تركيز الثروة في أيديهم بشكل جعل نسبة الفقر تتوسع دائرتها لتثمل فئات عريضة من الطبقة الوسطى.

. تراجع الازدهار الاقتصادي في أمريكا وأوروبا خصوصا منذ أزمة 2008: يعزى هذا التراجع عموما للسياسة النقدية التي شهدت تقلصا في الاستثمار بسبب ارتفاع الديون التي ناهزت 34 تريليون دولار وارتفاع أسعار الفائدة الناجم عن التضخم الذي رافق اندلاع جائحة كورونا. وإذا كان هذا التراجع لا يؤثر لحد اليوم على الريادة الاقتصادية للولايات المتحدة عالميا، فإن نشاطها الاقتصادي شهد تباطؤا كبيرا على مستوى الاستثمار والصناعة والتجارة بسبب العولمة التي قلصت وسائل الإنتاج وعددت الفاعلين الاقتصاديين على الصعيد الوطني. إن سيطرة المال على الاقتصاد الأمريكي هو السبب في الفوز الساحق لترامب الذي ساهم فيه ضعف بايدن رغم أنه راكم تجربة سياسية طويلة لم تشفع له أمام شيخوخته ومرضه. فشعبوية ترامب ووعوده لرد الاعتبار لقوة أمريكا جعلت فئات عريضة من الأمريكيين تنساق وراء خطاباته المشحونة. وقد عبر العديد من المحللين على كون هذا الأخير يمارس السياسة بعقلية المقاول الذي لا ينظر سوى للربح. فهو يكاد يغيب عن الوعي السياسي الذي يقتضي احترام قواعد اللعبة بدعم النمو عبر الاستثمار بدل إثقال الأسر بالديون دون تجميدها وتخفيض التمويل في قطاع الصحة والبحت العلمي وفي مرافق حيوية كالتعليم والإسكان والأجور، عوض تسهيل إفراط المساهمين في استغلال الأزمات لفائدة الشركات الخاصة. إن الأشكال الذي تطرحه سياسة ترامب أنه شخص متقلب المزاج ولا شيء يثنيه عن نقض التزاماته خاصة تجاه الدول التي يعاملها بنظرة دونية.

- وما من شك أن هذه السياسة التي لا تعير اهتماما لقواعد القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، جعلته لا ينظر لملوك ورؤساء الدول النفطية في الشرق الأوسط (بإيعاز من إسرائيل) إلا كشغيلة لديه، يرغمهم على أداء فاتورة حماية عروشهم. بل لم يتورع في الافصاح عن نيته في ضم كندا والمكسيك وكرولاند للفدرالية الأمريكية. لكن يخطئ من يعتقد أنه مجرد مهرج ولو أن كل طموحاته لا تبدو سهلة المنال. أكثر من هذا فقد توعد، تقول بعض الأخبار إن صحت، بشراء غزة وامتلاكها. وهذا سلوك لم نشهد له مثيلا طوال القرن العشرين، باستثناء فترة النازية لما احتل هتلر بولندا، لآنه بتصرفه هذا المعتمد على استعمال القوة يجسد فكرة "الكاوبوي" المغتصب لأراضي الهنود الحمر، وانتهاكا صارخا لحقوق الإنسان وسيادة الدول التي يحميها مبدئيا ميثاق الأمم المتحدة. فمن الصعب جدا إن لم أقل من المستحيل أن تكون لدى ترامب رؤية واضحة حول واقع الشعوب، والشعب الفلسطيني بالأساس، لأنه يجهل تاريخ الشرق الأوسط ومدى قدرة الفلسطيني على التحدي حتى ولو تمت في ذلك إبادته بالكامل.

فالسعي وراء الكسب والربح للنظام الرأسمالي، دون استحضار العامل التاريخي والثقافي، كرافد مركزي في تشكيل ثقافة الشعوب، لطالما ورط الولايات المتحدة في ويلات يبدو أن ترامب لم يستوعبها بعد. فالهزيمة التي تلقتها أمريكا في حرب الفتنام لا زالت حاضرة في الأدهان. وهذا أيلون موسك، أغنى رجل في العالم والمتطرف اليميني، الذي عينه ترامب على رأس إدارة الكفاءة الحكومية، لم يسلم من انتقادات بعض النقابات والسياسيين وحتى مؤسس شركة مايكرو سوفت بيل كيتس، الذين عابوا عليه التدخل في شؤون الدول الأجنبية، ملوحين إلى تصريحاته بخصوص سياسة بريطانيا وألمانيا. لقد أصبح العالم اليوم، وأكشر من أي وقت مضى، تحت ضغط اللوبي الصهيوني الذي وضع مخططا استعماريا يروم توسيع حدود إسرائيل من المحيط إلى الخليج، فهل فطن العرب إلى أن هذا المشروع "القديم-الحديث" إن تحقق فلن يبقي على أي نظام سواء كان مطبعا أو لم يكن؟

في كتابه "الأزمات الست للاقتصاد العالمي" يقدم خوسيه تابيا، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بفيلاديلفيا، قراءة ذات نزعة ماركسية لاقتصاد السوق مؤكدا أنه "حيث يسود اقتصاد نقدي لا يتم تطوير موارد طبيعية، ولا توفير معدات ميكانيكية، ولا تتم ممارسة مهارة صناعية، إلا إن كانت الشروط تعد بربح مالي لأولئك الذين يديرون الإنتاج ...فالأزمات مستوطنة في الرأسمالية ومعممة في شتى أنحاء العالم، وهي تحدث مرة واحدة على الأقل كل عقد، والمحاولات الفاشلة لإنشاء مؤسسات حكامة عالمية، تظهر أن قدرة السوق على تنظيم نفسه وتحقيق نتائج اجتماعية فعالة هي مجرد خرافة ". وإذا كان الفساد لا يستثني نظاما اقتصاديا أو سياسيا في العالم، فإنه، في ظل الرأسمالية المتوحشة شكل قاعدة متلازمة مع طبيعته. غير أن هناك بونا شاسعا في هذا الفساد إن كان مقترفوه يقتاتون من المال العام أو من معاملاتهم الخاصة. وهو ما لا نجد له مقابلا في أنظمة الدول المتخلفة، حيت يعمد المسؤولون عن إدارة الشأن العام إلى مد أيديهم لخزائن الدولة.

- من الملاحظ أيضا أنه رغم الاحتجاجات الشعبية في جل بقاع العالم، والولايات المتحدة على رأسها، لم تتحرك حكومتها ولا حكومات حلفاْئها في أوروبا، على عكس ما حدث عند غزو الكويت من طرف الجيش العراقي في 2غشت 1990 بإيعاز، هنا أيضا، من إدارة بوش الأب التي غررت بصدام حسين لإيقاعه في كمين محبوك مقدما. وفي هذا التصرف ما يوشي بتواطؤ هذه الحكومات المبيت.

- إن المغزى من استعراض بعض ملامح نظرية ماركس حول الطبقات هو تحديد النمط الذي يندرج فيه النظام الاقتصادي المغربي الحالي، والذي لا نكاد نجد له مثيلا حتى في منظومة نمط الإنتاج الآسيوي الذي تخلي عنه ماركس نفسه. فهو ليس رأسماليا ما ذامت الرأسمالية قد تكيفت مع التطور الذي جعلها تمر من الدولة الدركية التي ينحصر دورها في مهمة حماية النظام العام والأمن، إلى الدولة الراعية التي منحت مجموعة حقوق اجتماعية لمصلحة الأفراد قبل أن تستقر على دولة الضبط التي تسهر على حسن سير السوق دون تدخلها كفاعل اقتصادي. وهو ليس اشتراكيا في غياب البنى السفلى الكفيلة بتحقيقه.

على المستوى السياسي يظل النظام المغربي أمينا للبنية المخزنية التي يستعصي استيعابها خارج تاريخيتها. فبغض النظر عن الاكراهات والاطماع الخارجية التي تضرب في الصميم حرمة سيادته، فقد ارتبط هيكليا بشتى أنواع الانحراف كانعدام المحاسبة وتضارب المصالح والزبونية والرشوة التي تنخر المجتمع والدولة في جميع مرافقها، واستغلال النفود والتهرب الضريبي وكلها مظاهر فساد أفضت إلى خلط السلطة الشخصية بالسلطة المؤسساتية.

وهذا ما يفسر عجزه عن الانخراط في أي نسق اقتصادي عصري مهما بلغت حسن نوايا القائمين عليه.