الثلاثاء 11 فبراير 2025
كتاب الرأي

محمد الخالدي: ترشيد التقاضي وتسديد التبليغ

محمد الخالدي: ترشيد التقاضي وتسديد التبليغ محمد الخالدي
أثارت الكلمة  التي ألقاها السيد مَحمد عبد النباوي الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة يوم الأحد 9 فبراير 2025،  خلال مشاركته في اللقاء التواصلي المنظم من طرف المجلس العلمي الأعلى حول مشروع “خطة تسديد التبليغ”، تفاعلات عديدة ومتنوعة، حيث ثمن البعض هذه المقاربة التي تقوم على تعزيز دور القيم والتربية  في إصلاح المجتمع بشكل متكامل مع دور القضاء. لكن من جهة أخرى هناك من رأى في كلمة رئيس النيابة العامة مجرد رسالة وعظية لا يمكن أن تقف في وجه الانحرافات المجتمعية التي تتطلب صرامة أكبر من طرف المنظومتين الأمنية والقضائية.
لكن، وبغض النظر عن خلفيات وغايات كل طرف، لا بد من وضع كلمة السيد رئيس النيابة العامة في سياقين مهمين:

أولا: السياق العام المرتبط بإطلاق مجموعة من الإصلاحات والاصلاحات التشريعية الكبرى التي انخرط فيها المغرب منذ سنوات من أجل بلورة حلول وبدائل خصوصا فيما  يتعلق بحل النزاعات بأنواعها المختلفة (الأسرية والتجارية و....) أو فيما يتعلق بترشيد السياسة العقابية وجعلها في خدمة التنمية والتأهيل المجتمعيين. ذلك أن الغاية من القضاء والتقاضي هي تحقيق العدالة والانصاف كأساسين متينين لمجتمع قوي وآمن ومنتج؛ مجتمع يحس فيه أفراده بالأمن والأمان على حقوقهم وممتلكاتهم. إن التقاضي وفق هذه الرؤية ليس غاية لذاته بل مجرد وسيلة يمكن تجويدها ولما لا تعويضها بوسائل تكون اكثر فعالية ونجاعة. فآليات الصلح والتحكيم مثلا أصبحت تحتل مكانا مهما في كثير من الأنظمة القانونية الحديثة ناهيك على أنها شكلت عنصرا مهما في النظام القضائي الاسلامي الذي فتح باب العفو حتى في أكثر الجرائم خطورة، من أجل إرساء أسس مجتمع تحكمه قيم الإصلاح والتآزر أكثر مما تحكمه مشاعر الانتقام والرغبة في استعراض القوة والبطش.

إن فلسفة قانونية تؤمن بالإنسان وتنحاز له وتستثمر فيه وتعتبره ثروة حقيقية ينبغي تحصينها بالتربية وبتوفير مقومات العيش الكريم هي التي يمكن أن تنسجم وما حققته البشرية من تطور في مجال الحريات وحقوق الإنسان فتتحول التشريعات والقوانين إلى وسيلة لتجويد حياة الإنسان وجعلها أفضل، فلا يتم اللجوء إلى القضاء إلا عندما تتعثر المساطر البديلة من صلح وتحكيم ، ويكون العقاب بدوره مجرد وسيلة للتقويم والإصلاح والتأهيل. وهنا لابد من الإشارة إلى أهمية الاستثمار بشكل كبير في تعزيز ثقافة حقوق الانسان وجعلها مشتركا مجتمعيا تتملكه كل فئات المجتمع. لأن الموقف من التجريم والعقاب يعكس في عمقه ثقافة متجذرة في نفوس كثيرين تعتبر أن العدالة لا تتحقق إلا بتقويض الحريات وبالمبالغة في الردع والعقاب. بيد أن الواقع المعاش يبين بوضوح أن معدلات الجريمة تراجعت في المجتمعات التي استثمرت بشكل كبير في إرساء أنظمة عقابية بديلة أكثر انسانية، كما أن الاستثمار يتعزز في ظل النظم التشريعية التي تتسم بتبسيط مساطرها وباعتماد أليات مبتكرة في التحكيم وتدبير النزاعات. بل يمكن أن نقول بأن تقدم دول في مجال تخليق الحياة العامة وفي تراجع معدلات الجريمة تزامن وارتفاع مؤشرات السعادة المرتكزة بالأساس على جودة الحياة بكل عناصرها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والحقوقية.

ثانيا: السياق الخاص  للقاء التواصلي الذي نظمه المجلس العلمي الاعلى بخصوص "تسديد التبليغ" كمشروع تربوي إصلاحي يروم ترصيد ما تم إنجازه في مجال اصلاح الشأن الديني في بلادنا والسعي نحو جعل الدين والتدين في خدمة الحياة الطيبة بأبعادها الروحية والتنموية. 

إن التبليغ الديني وفق هذه الرؤية ليس طقسا دينيا يبدأ وينتهي في الفضاء المسجدي مثلا بل هو فعل مجتمعي يروم المساهمة في معالجة أزمات المجتمع ويسعى إلى تعزيز الصلاح والإصلاح مما جعله ممارسة مواطنة تتفاعل واحتياجات المجتمع ومتطلباته. لذلك لم تعد أدوار الفاعل الديني مقتصرة على المهام الدينية التقليدية، بل أصبحت تمتد لكل المجالات التي يمكن أن يساهم فيها مستثمرا رمزيته وثقة الناس فيه، خصوصا في مجالات الصلح وتدبير النزاعات بين المتخاصمين والمساهمة في تأطير المجتمع وتوعيته ضد المخاطر والاختلالات التي يمكن أن تصيبه.

تتنوع مداخل ترشيد التقاضي  من أجل جعله في خدمة المجتمع، لكن يمكن لخطة "تسديد التبليغ" أن تكون من أهم هذه المداخل إذا ما تم الاشتغال عليها تجويدا وتطويرا، لاسيما من خلال مأسسة علاقات الفاعل الديني مع مختلف المؤسسات والهيئات التي يمكن أن تحتاج تدخله. مع ضرورة الاستثمار بشكل كبير في تعزيز التكوين المستمر لمختلف الفاعلين والمتدخلين وتيسير انفتاح المؤسسات الدينية على خبراء ومختصين سيساهمون حتما في تطوير آليات اشتغالها.

وختاما، لا بد من الإشارة إلى أن التفاعلات المتضاربة بخصوص كلمة السيد رئيس النيابة العامة تسائل كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي من المفروض أن تلعب دورا كبيرا في تربية المواطن وتأهيله وتمكينه من تملك ثقافة مواطنة تنحاز لقيم الحرية وحقوق والانسان وتنهل من قيم المجتمع المغربي الأصيلة. 

لا يمكن للقضاء أن يعالج كل مشكلات المجتمع كما لا ينبغي أن يتوسع مجال السجن  على حساب المسجد والمدرسة والمعمل والمراكز الفنية والثقافية والرياضية.
 
د. محمد الخالدي/ باحث في القانون العام والعلوم السياسية