كما كان منتظرا، اِعتلى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منصة الخَطابة بالقاعة الكبرى بمجلس النواب، ليُلقي خطابه إلى أعضاء البرلمان المغربي، بغرفتيه، فكان خطاباً محشواً برصاص الكلام الوازن، والثقيل على آذان واعناق وكواهل أعداء وحدتنا الترابية، الذين أطلقوا علينا ذلك اللقب الوارد في العنوان اعلاه... فكيف ذلك؟!
1- جاء كلام ماكرون ثقيلا ووازناً في حمولته الأدبية، التي متحت من توليفات الأدب الفرنسي الراقية، فبدا الرئيس وكأنه يتلو نثراً شعرياً لفولتير، أو مونتيسكيو، أو روسو... ولا أذكر هنا وجه الشبه بينه وبين أبيات "الشاعر الرجيم" بودلير، إلاّ في فقرات الخطاب الرئاسي التي تناولت قضية صحرائنا الجنوبية الغربية ومشروعنا للحكم الذاتي، والتي لا ريب أنّ فقراتها ستكون بثقل الجبال فوق رؤوس جيراننا الشرقيين، الذين من البديهي أنهم ألصقوا آذانهم بأجهزتهم الإعلامية، و"الكاس يدور" كالعادة، وهم يتابعون كلمات ماكرون، ربما بأكثر مما لدينا نحن المعنيين بخطابه وإيماءاته من الفضول والانتباه البالغَيْنِ حدوداً قياسية!!
2- جاء كلامه مُتَمَنْطِقاً سيفاً من التعابير المشحوذة كشفرة "الكاطانا" الياباني (سيف الساموراي الشهير) وهو يسترجع محطات كثيرة مشرقة من تاريخ مغربي يعود إلى آلاف السنين، وضمن مساحته الزمنية تاريخٌ إمبراطوريٌّ يناهز ألفاً وثلاثمائة سنة، مما يشكّل وحده أحد مسبِّبات الوجع الرهيب الذي يعاني منه نظام يعلم أن تاريخ دولته لا يتخطى الستين سنةً إلا بقليل!!
نعم، العالم كله يعلم أنه قبل ذلك التاريخ، لم تخرج الجزائر عن كونها قبائلَ وأمصاراً متأرجحةَ المآل بين غُزاةٍ عثمانيين، وآخرين من الفرنسيين، وجميعهم غزاة، من رعايا "الكونت دارتوا"، الملقب بشارل العاشر، الذي استطاع أحفادُه بعد اثنتين وثلاثين ومائةِ سنةٍ (132) أن يفبركوا للجزائر وضعيةً غرائبيةً هي أقرب إلى الحكم الذاتي منها إلى الاستقلال، بدليل الحبل السري الذي مازال يربطها بولية نعمتها "الديغولية"... فشارل ديغول، هو صاحب الإمضاء المُذَيِّلِ للوثيقة التي كرَّسَتْ قانونياً لتلك الوضعية الملتبِسة!!
3- جاءت إيماءات ماكرون الواضحة إلى التاريخ المشترك، بين المغرب وفرنسا، حاملةً هي الأخرى لعبارت من المدح والثناء مُنتقاة بعناية، يَندُر وجودُها في كل الخطابات التي وجّهها رؤساء فرنسا تِباعاً إلى دولة الجزائر، مما شكّل لحظةً أخرى فارقةً في علاقة فرنسا بالمغرب والجزائر معاً، وسياطاً أكثر وَخْزاً وإيلاماً لكبرياء جزائري فارغ، يسميه أصحابُه "نِيفاً"، بمعنى الأنف والأنفة وعزة النفس، التي أصيبت جميعُها بضربة قاضية لأنها لم تَلْقَ من "الحبيب الفرنسي" نفس الزّخّة من الحرارة والصدق اللذين نَمَّ عنهما كلامُه في برلماننا... وحين نقول الصدق، فلأن الخطاب مصحوبٌ ومرفَقٌ بتدابير فرنسية تشاركية عملية تعيد عقارب الساعة في زمن العلاقات بين المغرب وفرنسا إلى نقطة انطلاق جديدة ولكن، بسرعة قياسية، بخلاف علاقة جزائرية فرنسية ليس فيها سوى مظاهر العناق والقُبَل المتبادلة أمام الملأ بين رئيسي الدولتين (!!!) وكل هذا من شأنه أن يقضّ مضاجع جيراننا الشرقيين ويزيدهم غرقاً في عربداتهم اليومية، ولا شك أن سُكْرَهم اللحظةَ تخطى كلَّ الطُّفُوح المُعتاد!!
4- جاء كلام الرئيس ماكرون واضعاً خطوطاً حمراءَ مميِّزة تحت أسماء كل المحطات التي اختلط فيها الدم الفرنسي بنظيره المغربي في ساحات الشرف، دفاعا "في الماضي" عن استقلال فرنسا وتحررها من النازية، وذَوْداً "في الحاضر" عن هجمات الإرهاب والجريمة المنظمة والعابرة للقارات، بالاعتماد على مقاربات أمنية مغربية، استباقية وتوقُّعية، تشكل مفخرةً عالميةً لجهاز الأمن المغربي بمختلف مكوّناته...
وفي هذا المجال أيضاً، لابد أن يُصاب جيرانُنا في الشرق بمغص ليس له علاج مادام النظام عينَ النظام، والعقليات المتحفية عينَ العقليات!!
5- شكّل خطاب ماكرون وهو يتطرق لمجالات الشراكة والتعاون في فرنسا من جهة، بأيدي الشغيلة المغربية الجادة والمنضبطة، وفي المغرب من جهة ثانية، بأنشطة الشركات والمقاولات الفرنسية الحاملة معها لمناهج التكوين والتأهيل المهنيين لشباب مغربي صار مضرب المثل في حصيلاته من التقنيات والحرف الدقيقة، بما فيها المتعلقة بصناعة محركات الطائرات، وتجهيزات الأقمار الصناعية، فضلاً عن الولوج إلى تكنولوجيا المعلوميات الدقيقة وصناعة وبرمجة رقائق السيليكون... وغيرها من المهن المستقبلية.
6- ثم جاء الجزء الأهم من كل ما سبق ذكره، من هذا الخطاب الطويل والمفصّل، والمَصوغ بعناية فائقة وباحترافية سياسية ودبلوماسية قلَّ نَظيرُها، عندما أعاد ماكرون ما عبّر عنه في رسالته التي وجهها لجلالة الملك بمناسبة إحياء الذكرى الفضية لعيد العرش، حيث ردّد من جديد حرصَه ودولته على التأكيد على أنّ المقترح المغربي للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو "الحل الوحيد"، راهناً ومستقبَلاً، للنزاع المفتعل حول صحرائنا، ثم إعادة التأكيد على استعداد فرنسا للسير مع المغرب جنباً إلى جنب في سبيل تكريس هذا الحل ووضعه قيد التنفيذ، والسعي إلى تحقيق ذلك في مختلِفِ المحافل الدولية والعالمية...
وقد شكلت هذه اللحظة من الخطاب الرئاسي الفرنسي، بالذات، قطرةً فارقةً كانت كافية لإغراق جيراننا في كؤوس خمورهم الملئى عن آخرها... مما سيزيد في طفوح السُّكْرِ لديهم ويُدخلهم في غيبوبات وهلوسات قد لا يستفيقون منها إلاّ بذهاب ريحهم إلى غير رجعة!!
كان هذا إذَنْ، بمثابة الجانب الذي يهمّنا أكثر من غيره في خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون، لأنه الجانب الذي شكّل وسيشكّل لكمات عنيفة وقاضية باتجاه الوجوه الصفراء الشاحبة والباهتة لسكان الموراديا، الذين يعلم الله وحده ما هم عليه الآن من الهرج والمرج والحقد الدفين... إلى غير ذلك، مما يستدعي اللجوء المُعَجَّل إلى أقرب محلل نفساني بغرض التخفيف لا بغرض الشفاء، لإن الشفاء من الحالة الجزائرية ميؤوس منه بكل تأكيد... والأيام القادمة ستؤكد ذلك وتشخصه بمختلف الأشكال والأصناف... وما علينا إلاّ التوقّع والانتظار!!
ويبقى القول، إن المغرب في حقيقة الأمر، لم يكن بحاجة ماسة لهذه الزيارة ولا لهذا الخطاب الوازن والمُفْحِم، فهو في صحرائه وهي فيه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وإنما كانت تلك الحاجة ماسةً وأكيدةً لدى رئيس انتظر كثيراً حلولَ الساعة التي يُعيد فيها لحظة ميلاده، ويكرّس من خلالها انبعاثَه من جديد، وانطلاقتَه على صعيد الساحة السياسية الدولية، التي ظل يعاني من إخفاقاته فيها منذ منتصف عهدته السابقة إلى غاية يومه، وقد شكّلت له هذه الزيارة، وهذا الخطاب الفارق، مناسبةً لا غنى عنها لتحقيق القفزة النوعية المطلوبة في مساره السياسي الداخلي والخارجي، الذي كان يشكو قبل هذا الخطاب مِنْ كثيرٍ مِنَ النقائص والهَنّات!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.