يحتفل الجزائريون في الفاتح من نوفمبر كل عام بذكرى انطلاق ثورتهم التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، ويقيمون لذلك جملة من الفعاليات السياسية والعسكرية والفكرية والفنية، برسائل بعضها موجه للداخل والاستمرار في تذكير الأجيال الجديدة بماضي الجزائر وما قدمه الأجداد من أجل تحرير البلاد، وكثيره إلى الخارج القريب منه والبعيد.
تحل ذكرى هذا العام، بينما يستمر المسار السياسي الانقلابي الذي حدث منذ أيام الثورة الأولى غير عابئ بطموح الأجيال الجديدة، التي لم تعش الاستعمار ولا صراعات البناء الأولى للدولة، وتحلم بواقع يمكنها فيه أن تختار عبر الصندوق من يحكمها لا أن تنتظر القرارات العسكرية التي تبين لها الطريق بعيدا عن أنوار الحوارات الكاشفة.
ومع أن حكام الجزائر لازالوا مزهوين بقدرتهم على إجهاض حراكهم الشعبي وترويضه لصالح ذات المنظومة القديمة، إلا أن ذكرى هذا العام تأتي في ظل تحديات وطنية وإقليمية ودولية غاية في الصعوبة والتعقيد.. إذ لا تزال أوضاع الجزائر الاقتصادية تراوح مكانها ولم تفلح سياسات النظام الحاكم في امتصاص حجم البطالة المرتفع بين الشباب الخريجين، ولا أن تقنع الأجيال الجديدة بالعدول عن المغامرة بحياتهم من أجل الوصول إلى الضفة الشمالية للمتوسط..
وإقليميا يعيش النظام الجزائري عزلة متزايدة، فلا هو حافظ على علاقات إيجابية مع مالي تسمح له بأن يكون وسيطا بين الفرقاء لتحقيق السلام، ولا هو حافظ حتى على علاقاته التقليدية مع موسكو بعد المنازلات العسكرية التي جرت بين الجيش المالي وقبائل الأزواد، حيث تمكنت الأخيرة من أسر عشرات المقاتلين من جماعات فاغنر الروسية لديها، وهو أمر ما كان له أن يحدث لولا الدعم الجزائري الرسمي..
وباستثناء تونس التي بدأ نظامها يتململ ويعيد النظر في بعض حساباته تحت ضغط حلفاء إقليميين ودوليين له، لا يملك النظام الجزائري دورا محوريا يستطيع من خلاله أن يضغط على أي من الأطراف العربية والإقليمية لصالح خياراته، وهو موقف ضعيف لم يسبق للجزائر أن مرت به على الرغم من كل التحديات التي واجهتها على مدى عقود الاستقلال المنصرمة..
وبدلا من أن تستثمر الجزائر مخزونها من النفط والغاز وموقعها الجغرافي المترامي في تشكيل موقف سياسي واقتصادي فاعل في المنطقة، فإنها انشغلت فقط بملاحقة إنجازات النظام المغربي سواء تعلق الأمر بملف الصحراء والاتحاد الإفريقي، أو تعلق الأمر بعلاقاته مع الاتحاد الأوروبي والمنظومة الغربية، وهو موقف أضر بالجزائر كبلد وكمصالح وحتى كنظام.
ويشعر المرء بكثير من الحسرة والألم، أن يفتتح الرئيس الجزائري ولايته الثانية في حكم البلاد ليس بالتواصل المباشر مع الشعب الجزائري وقيادة حوار وطني جدي يجيب على سؤال العزوف عن المشاركة السياسية التي تجلت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبناء مشهد سياسي قوي بين الحكم والمعارضة، اختار أن يزور القاهرة ليس من أجل إقناعها بفتح معبر رفح لإغاثة غزة وبناء المستشفيات التي تعهد بها أثناء حملته الانتخابية، وإنما من أجل إيصال رسالة إلى الاحتلال عبر الوسيط المصري مفادها أن الجزائر ليست في عداء مع أي طرف، وأنها لا تتدخل في الشؤوتن الداخلية للدول، وأنها مع ذلك مستعدة في أن تكون شريكة في إدارة غزة في اليوم التالي للحرب، في خروج تام عن التقاليد السياسية التي عرفتها الجزائر على مدى تاريخها..
ولا بأس من التذكير ببيان نوفمبر 1954 الذي أصدرته جبهة التحرير الوطني وحددت فيه أهداف الثورة، وهي: الاستقلال التام عن فرنسا واسترجاع السيادة الوطنية، تأسيس دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية ترتكز على المبادئ الإسلامية، الوحدة الوطنية وتعبئة الشعب في سبيل تحقيق الاستقلال، وهي بالمناسبة ذكرى يجب أن تحتفظ للحاضنة المغاربية والعربية والإسلامية وأيضا لأحرار العالم، بالفضل في إيمانهم بحق الشعب الجزائري في التحرر من الاستعمار، لا أن تتحول إلى مناسبة لاستعراض القوة وتهديد الجوار بها..
الذكرى السبعين للثورة الجزائرية تشكل فرصة للتأمل في دروس الثورة والسعي نحو المصالحة الوطنية والإقليمية من أجل تحقيق التقدم والنهضة، تكريمًا لتضحيات الأجيال التي حققت الاستقلال للشعب الجزائري.
كريم مولاي، خبير أمني جزائري - لندن