تلك العودة التي تفرضها الأقدار كأنها لا تعترف بالنهايات. حينها، تكون كل التفاصيل قد تلاشت، والذكريات قد تراكمت على رفوف النسيان، مهملة، كأنها لم تكن. يرعبني أن أجد نفسي في تلك اللحظة محاصرة بواجب جمع شظايا الماضي، محاولة إعادة صياغة الكلمات التي ذابت في صمت طويل، وترتيب التفاصيل التي كانت يومًا تنبض بالحياة. سأكون حينها أمام مهمة شاقة، مضطرة إلى استنزاف كل ما تبقى من طاقتي، لأعيد نسج حكاية انتهت، لأتعرف من جديد على أدق تفاصيل مرحلة كنت قد قررت طيها في ركن بعيد من الذاكرة.
لكن، الأسوأ هو ذلك اللقاء المنتظر، اللحظة التي تلتقي فيها العيون مرة أخرى. الدنيا غريبة، تعرف كيف تنسيك شخصًا بمهارة، ثم، في لحظة اللقاء، تضعك أمام غرباء، غرباء كانوا في يوم من الأيام أقرب إليك من نفسك. لا تعود الروح تألفهم، ولا تعود الكلمات تجد طريقها كما كانت من قبل. شعور غريب، ومؤلم... لكنه ليس مفاجئًا. لا أستطيع أن ألوم نفسي على هذا التغيير، فأنا لم أملك قرار الانفصال ولا العودة. كانت الحياة تنهال عليّ بالأحداث، كالشهب التي تضيء السماء لوهلة ثم تتلاشى، ووجدت نفسي وحيدة في المشهد، ضحية... في نظري، نعم، ضحية. ولكن المجتمع، بطبيعته، يراني المتهم الأول.
لقد تألمت، ثم استسلمت. لكنني، رغم ذلك، جمعت أشلاء روحي المنكسرة، وأعدت بناء عزيمتي بنفسي. صبرت، حتى استطعت أن أساير الحياة، أن أتقبل واقعًا لا أملك تغييره. تعلمت أن أعتاد الأكاذيب، وأن أواجه الغدر بلا انكسار، أن أتحمل مرارة الشماتة ونيران اللوم التي لا تهدأ. منذ ذلك الوقت، توقفت عن محاسبة نفسي على السنوات الضائعة، على القرارات التي بدت يومًا خاطئة. لقد كان كل ذلك قدرًا محتومًا، مرحلة طويت صفحتها بسلام.
كنت ضحية لأنانيتهم وغرورهم، ضحية لمبادئ تعلمتها في بيت العائلة، في دفء التقاليد والأصول. كل ذلك صنع مني صورة مهذبة، متوازنة، تشبه تلك النماذج التي تملأ الأزقة، الوجوه المألوفة التي تقبل بارتداء زي النفاق، رغم أنها تلعنه في أعماقها. أتعايش مع عالم مشوه المعالم، حيث أصبحت القيم مقلوبة، وأضحى الغرور والنفاق هما العملتان الرائجتان للحصول على رضا "الغول" وبركته.
ورغم كل هذا العبث، لا زلت أجد في نفسي تلك الرغبة الغريبة في إيجاد الأعذار لهم، لا زلت أمد يدي إليهم، أملًا في أن تعود الأمور إلى سابق عهدها. لكن الحقيقة واضحة أمامي الآن، لقد اعتزلت كل شيء. صرت أراقبهم من بعيد، أستمتع بالتفاصيل الصغيرة التي تمر أمامي كفصول مسرحية، مستلقية على ضفاف الأمان، أراقب الأحداث وأبتسم، بهدوء، بسخرية، وبتواضع، بينما أترقب النهاية التي لا أحتاج للمشاركة فيها.