تُجرَى الانتخابات الرئاسية في تونس، يوم الأحد 6 أكتوبر 2024، في ظلّ انحسار التّدَاول والنقاش في الفضاءات العامة وفي وسائل الإعلام حول البرامج والأفكار والسياسات. وقد رفضَ الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيد -دون الإعلان صراحة عن ذلك- الحضور في المناظرة الرئاسية والبرامج الحوارية. وفي ظلّ غياب مصادر رسميّة تُوضّح تركيبة الحملة الانتخابية للرئيس سعيّد ومصادرها والفاعلين البارزين فيها، تَتَداول منصات التواصل الاجتماعي فيديوهات قصيرة تُظهِر شقيق الرئيس، نوفل سعيد، بصدد المشاركة في اجتماعات انتخابية أو الدعوة إلى “التّنظّم التلقائي” من أجل حَسم نتائج الانتخابات من الدور الأول لفائدة شقيقه قيس سعيّد. بالإضافة إلى هذا، تُظهِر العديد من الفيديوهات والصّور التي يروّجها أنصار الرئيس الدور الذي تقوم به المجالس المحلية، المُنصَّبَة حديثا ضمن مشروع “البناء القاعدي” للرئيس سعيد، في الدعاية للتصويت للرئيس المنتهية ولايته في الأسواق الأسبوعية وأماكن التجمع السكاني، بخاصة بعد أن وعَدَ الرئيس سعيّد إسناد منحة حضور مُجزية لأعضاء المجالس المحلية والجهوية.
في الأثناء، يَقبع العياشي زَمّال المُرشّح الثاني البارز للانتخابات الرئاسية في السّجن، منذ 02 شتنبر 2024، وتُلاحقه عشرات القضايا في أكثر من محكمة تونسية موزعة على أكثر من ولاية، بتهمة “افتعال وثائق وتدليس تزكيات شعبية”، ولا تَلُوح في الأفق بوادر للإفراج عنه بعد أن صدَرَت ضدّه أحكام متفاوتة بالسجن. ورغم مواصلة فريق حملته الانتخابية التعريف ببرنامجه في مواقع التواصل الاجتماعي وعقد بعض الندوات الصحفية، إلا أن حضورَهم الإعلامي اقتصَرَ على بعض الإذاعات الخاصة دون الإعلام العمومي الذي يجري توظيفه لصالح حملة الرئيس المنتهية ولايته. وقد تأثّرَ هذا الحضور بحالة التضييق والرّقابة التي يُمارسها النظام الحاكم على وسائل الإعلام، سواء عبر التخويف أو عبر التدخل المباشر في المضامين الصحفية، على غرار ما تشهده وكالة تونس إفريقيا للأنباء (وكالة حكومية) التي حَمَل صحفيّوها مؤخرا الشارة الحمراء احتجاجا على هذا التدخل. أما المرشح الثالث للرئاسة زهير المغزاوي لم يكن بمنأى عن التهديدات، ويَخُوض حملته الانتخابية في العديد من المناطق من خلال الزّيارات الميدانية للأسواق الأسبوعية وأماكن التجمع السكاني، ولكن منافسته على منصب الرئيس في ظل انحسار الحياة العامة واستمرار التلاعب بالقوانين وسجن المرشح الآخر تحوّلَت إلى منافسة باهتة. ورغم ما أبداه من تضامن مع المرشح عياشي زمّال، وإصدار بيان مشترك مع حملته الانتخابية، إلا أنه ما زال محلّ تحفظات من بعض المُكوّنات السياسية المُعارضَة بسبب مساندته للانقلاب الدستوري، الذي يُطلق عليه “مسار 25 جويلية”.
تَخرِيب الحياة العامة كفضاء تَنازع وتَداوُل
سعى النظام الحَاكِم الحالي إلى إفراغ الانتخابات الرئاسية الحالية من مضمونها الديمقراطي، عبر إزاحة كل منافسيه الجديّين سواء عبر إيداعهم السّجن قبل بداية الفترة الانتخابية على غرار لطفي المرايحي وعبير موسي، أو استعمال تهمة افتعال التزكيات الشعبية ضد بعض المترشحين وعدم منحهم بطاقة السوابق العدلية (البطاقة عدد 3) واستصدار أحكام بالسجن ضدهم، وعدم التزام هيئة الانتخابات بتنفيذ أحكام باتة صادرة عن المحكمة الإدارية تقضي بإرجاع مترشحين إلى سباق الانتخابات الرئاسية، وهم كل من المنذر الزنايدي وعماد الدائمي وعبد اللطيف المكي، وصولا إلى تغيير القانون الأساسي للانتخابات قبل أسبوع من موعد الاقتراع، ممّا أدّى إلى سَحب صلاحيات البت في النزاع الانتخابي من المحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات وإسنادها إلى القضاء العدلي، ضمن سياسة تهدف إلى توظيف القضاء العدلي مستقبلا -الذي يعيش بطبعه تحت الضغوطات والتهديدات المستمرة- في شرعنة غير قانونية لقرارات هيئة الانتخابات.
ضمن هذا السياق، اندرجت الحملات الانتخابية التي عمل النظام على إفراغها من مبدأين أساسيين في الديمقراطية، هما: التنازع والتداول. لذلك تمّت صناعة مشهد انتخابي خال من المنافسة السياسية بين المترشحين، وذلك عبر إضعاف النقاشات الانتخابية في وسائل الإعلام وفي الفضاءات العامة، وتهميش فكرة تقييم العهدة الرئاسية السابقة.
ومن الملاحظ أن الرئيس المنتهية ولايته لم يُعوِّل كثيرا على المهرجانات الانتخابية الشعبية لإبراز “قوّته الشعبية” ولم يُرَاهن أيضا على افتكاك مساحات إعلامية واسعة للظهور الشخصي، وإنّما يلوح أن النظام الحاكم راهن على قتل السياسة والتسيس، وتعزيز العزوف المجتمعي عن الخوض في الشأن العام، وعزل المجتمع عن المعركة الانتخابية، لتصبح أشبه بـ”اللاحدث” وتكون فرصة لتجديد شرعية الرئيس المنتهية ولايته وليست آلية ديمقراطية للتداول على السلطة. وفي هذا السياق، لعبت بعض أجهزة الدولة والنظام أدوارا مختلفة في تحويل وجهة الانتخابات من ساحة للتنافس الديمقراطي إلى ساحة معركة تُدَار بالمحاكم والملاحقات الأمنية وشيطنة المنافسين.
العَبَث بالصندوق كأداة حَسم ديمقراطي
منذ الإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية بشكل متأخر، في أول جويلية 2024، وإعلان العديد من المترشحين نيّتَهم المنافسة على منصب الرئاسة، وبروز دينامية سياسية وحقوقية تدعو إلى احترام حقوق الترشح، برزت لدى النظام الحالي نزعة خوف من إمكانية أن يحمل الصندوق تغييرا في هرم السلطة يوم 06 أكتوبر. وقد عَبّرَت الفوبيا الرسمية من الصندوق عن نفسها في الكثير من المظاهر من بينها عدم احترام قرارات المحكمة الإدارية وجرّ المُرشّحين إلى المحاكم وإيداع البعض منهم السجن على غرار لطفي المرايحي في مرحلة أولى والعياشي زمَّال في مرحلة ثانية. مما أنتجَ مشهدًا انتخابيا بثلاث مرشّحين: رئيس منتهية ولايته يَستخدم أجهزة الدولة ومواردها لفرض نفسه، مرشح ومنافس جدي في السجن صدَرَ ضده اليوم حكم ب ـ12 سنة سجن، ومرشح آخر دفعته كل السياقات الانتخابية إلى أن يتحوّل إلى مجرّد مُشارك رغم ما يُبديه من تمايز مستجدّ مع الرئيس المنتهية ولايته.
جاء البيان الانتخابي للرئيس المنتهية ولايته، الذي تمّ إطلاقه في أولى أيام الحملة الانتخابية، ليكشف المنطق الرسمي في التعامل مع فكرة الصندوق والمسار الانتخابي بشكل عام. فهي بالنسبة لبيان الرئيس سعيّد ليست فرصَة للتنازع الديمقراطي ضمن مجال سياسي تسيّجه حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون، وتُحتَرَم فيها حقوق الترشح وحيادية الإدارة والدولة، ويُسمَح فيها لجميع المواطنين والمترشحين بالتعبير عن أفكارهم وآرائهم وبرامجهم على قدر المساواة، وإنما اعتبرها الرئيس “معركة تحرير وطنية لا رجوع بعدها إلى الوراء”، معيدا استخدام مفهوم “تطهير البلاد” الذي بات يشكّل إطارًا إيديولوجيا للنظام الحالي، يستخدمه في تصفية خصومه السياسيين باسم تكييفات سياسية مختلفة على غرار “الحرب على الفساد” أو “تحقيق الديمقراطية الفعلية” أو “تحقيق إرادة الشعب”، إلخ.
هذا التصور يَفتح على مرحلة سياسية يُعاد فيها إنتاج الذهاب الدوري لصندوق الاقتراع كلحظة فلكلورية لتجديد شرعية الحكم الاستبدادي الفردي -مثلما شهدته البلاد في ظل نظام بن علي- وليس كلحظة سياسية تطرح فيها بجدية فكرة التداول على السلطة مثلما فرضته انتخابات ما بعد 2011، وخاصة انتخابات 2019 التي جاءت بالرئيس الحالي إلى الحكم. على هذا الأساس تشبّثَ جزء من الحركة الديمقراطية والحقوقية في تونس بفكرة الحفاظ على المضمون الديمقراطي للصندوق ودوره في تجديد نخب الحكم، ودعوا إلى النضال من أجل ذلك، في حين دعَا جزء آخر إلى مقاطعة الانتخابات قبل الإعلان حتى عن موعدها، مستندا إلى فكرة عدم شرعية المؤسسات السياسية والانتخابية الحالية المشرفة عليها.