في مرحلة التأسيس حين كان الأستاذ عبد الكبير حدان مندوبا لفرع الشعلة باليوسفية، كان للراحل الأستاذ الجامعي الدكتور المختار العبدلاوي لقاء فكريا تحت سقف فرع جمعية الشعلة للتربية والثقافة بمدينة اليوسفية، حيث ألقى محاضرة موسومة بـ "مفهوم المواطنة وإشكالية المجتمع المدني" بدار الشباب الأمل / اليوسفية بتاريخ 25 دجنبر 1999. وبعد مرور 25 سنة على هذا الحدث الفكري المتميز، وتكريما ووفاء لروحه وعطاءاته الفكرية تتقاسم جريدة "أنفاس بريس" نص المحاضرة التي تابعها جمهور غفير حينئذ من نساء ورجال التعليم، إلى جانب شباب المدينة وثلة من الإعلاميين والمبدعين والمثقفين والفنانين.
العقل مدخلا أساسيا من مداخل الحداثة
المدخل الثاني للحداثة الذي تحدث عنه الأستاذ المختار بنعبدلاوي خلال محاضرته التي ألقاها تحت سقف جمعية الشعلة للتربية والثقافة، حول مفهوم المجتمع المدني هو النظرة المعقلنة للعالم، مستحضرا أهمية معطى تبلور الرؤية للعالم في أوروبا مع كوبرنيك الذي اكتشف مجموعة من قوانين الفيزياء وخلص إلى قانون فيزيائي لتفسير الجاذبية حيث أصبحت أوروبا تنظر إلى العالم على أنه مجموعة من العلاقات المادية القابلة للفهم والإدراك والحساب رياضيا.
في هذا السياق اعتبر ضيف الشعلة أن هذه القابلية لاستيعاب العالم الطبيعي/الفيزيائي استيعابا رياضيا قد أدت إلى خلق نظرة معقلنة للعالم ـ بالنسبة للأوروبيين ـ وللعلاقات المجتمعية وللوجود الإنساني ولفكره انطلاقا من منطق العقل. ليخلص إلى نتيجة مفادها أن هذا التطور الحاصل في أوروبا على مدى فترات طويلة أصبح العقل يأخذ مكانة أساسية، واعتبر مدخلا أساسيا من مداخل الحداثة.
لماذا تحققت لأوروبا شروط النقلة النوعية نحو الحداثة في حين لم يحصل الأمر نفسه بالنسبة للعالم العربي؟
للإجابة عن هذا السؤال أوضح المحاضر الأستاذ بنعبدلاوي أنه بعيدا عن اعتبار المسألة قضية تاريخية فالأمر يستوجب قراءة مجتمعية لتطور المجتمعات العربية، مشيرا إلى بعض الأمثلة التي تخص مجتمعات عربية بعينها كالمجتمع اليمني أو المغربي أو العراقي قبيل التدخل الاستعماري ـ أي حتى حدود القرن التاسع عشر ـ في وسائل وأنماط إنتاجه، في ثقافته، في معرفته، حيث استخلص أن التقدم الذي تحقق بالعلاقة مع مستوى التطور المادي والمعرفي للعهد النبوي "يكاد يكون في درجة الصفر ـ حسب قوله.
في سياق متصل أكد أن السر في كون مجتمعاتنا العربية تفتقد لشروط نقلة نوعية نحو الحداثة، هو أنها ظلت مجتمعات قبلية ورعوية، حيث ظلت فيها المدن صغيرة جدا أو متقلصة، ولم تطور حركة تجارية تمكنها من تراكم مالي يفتح الآفاق أمام تطورها. واستدل على ذلك بنموذج المغرب الذي لم تكن فيه عملة موحدة ـ إلى حدود التدخل الاستعماري ـ حيث كانت الأوقية مثلا تصرف في كل منطقة من مناطقه بمقاييس وبقيمة معينة، فضلا على أنه لم تكن هناك طرق تجارية في المغرب منتظمة تمكن من تواصل تجاري واقتصادي.
لهذه الأسباب شدد الأستاذ المختار بنعبدلاوي على أن العالم العربي ظل في حالة ركود، وبقي مجتمعا اقطاعيا فلاحيا رعويا، كما ظلت فيه المعرفة جامدة ساكنة عتيقة لا تهتم بالطبيعة وبالكشف والتجريب. خلاف ما حصل في أوروبا ابتداء من الرقم الاثني عشر، حيث عرفت تحولات كبرى كاكتشاف الورق والطباعة، والاكتشافات الجغرافية الكبرى، واكتشاف البارود.
ولهذه الاعتبارات يرى ضيف الشعلة باليوسفية، أن هناك اختلاف بين سؤال كيف طرحت أو دخلت أو تبلورت الحداثة في أوروبا؟ والسؤال المرتبط بالعالم العربي الذي يعمل الآن جاهدا على استيراد المظاهر الخارجية للحداثة مغيبا عنه مضامينها الداخلية، على اعتبار أن الحداثة إذا كانت لها مظاهر تقنية ينبغي الاقتداء بها، فلا يجب أن نهمل مظاهرها الفكرية والفلسفية، بحيث إذا اقتنينا مثلا مصباحا كهربائيا، فعلينا أن نفكر عند استعماله في الدماغ الذي صنعه أو تصور تصميمه قبل أن يخترعه، كما لا يمكن مثلا فصل تحرير المرأة في أوروبا أو إقرار الحقوق لها عن التطور الهائل الذي حدث في الطباعة مثلا، وانعكاس هذه التكنولوجيا على تراجع الأمية.
وحتى لا نتيه في قراءة تاريخية تبتعد بنا عن المضمون ـ المحاضرة ـ وقف الأستاذ المختار بنعبدلاوي عند ثلاث بوابات كبرى للحداثة في أوروبا والتي يعتبرها لعبت دورا مهما في تأهيلها لتشهد تبلور مفاهيم فلسفية واجتماعية على أرض الواقع، وهو ما سنتطرق إليه في الحلقة القادمة.
يتبع