حصل هذه الأيام تقريبا ما حصل قبل أشهر في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط أثناء حفل توقيع كُتب الروائي السعودي أسامة المسلم، عندما حج الآلاف من معجبيه الشباب والمراهقين للقائه، فعمت الفوضى بسبب الزحام غير منتظر، وكانت الأمور ستتطور لولى تدخل الأمن، هذه المرة سينمائيا فالفيلم "الوثائقي" KAIZEN الذي يعرف هذه الأيام عروضه الأولى في الكثير من القاعات السينمائية العالمية، عرف إقبالا شديدا من طرف الجمهور.
نفس الشيء لدينا في المغرب فقاعة ميكاراما بمراكش عرفت أيضا زحاما شديدا من طرف جمهور من المراهقين حج لمشاهدة نفس الفيلم، فتحول هذا الزحام إلى فوضى ثم إلى صدامات ومشاجرات تطلبت تدخل السلطات الأمنية.
لم أشاهد الفيلم ولم أسمع به من قبل، لكن قرأت أنه من توقيع يوتوبر فرنسي شهير اسمه ''إينوكستاج'' صور فيه مغامرته في تسلق قمة جبل إيفرست، و "اليوتوبر" هنا أو "المؤثر" عبر الشبكات الإجتماعية هي الكلمة المفتاح، وهي العصا السحرية التي تجعل من المراهقين جمهورا مستهلكا لأي منتج تافها كان أو جادا، بل ويتجاوز استهلاكهم المنتج الرقمي والإفتراضي إلى المنتج المادي، بغض النظر عن قيمته الفنية والإبداعية.
قبل سنة أو أشهر لم أعد أتذكر بالضبط، صعد في الترند المغربي ''فيلم وثائقي'' اسمه ''ثورة الفتنس المغربي'' فأينما وليتُ وجهي وجدت موضوعا أو منشورا عنه، بل بعض الصفحات وصفته بأفضل عمل وثائقي في تاريخ المغرب!!! هذا الفيديو أقبل عليه وشاهده حينها ملايين الشباب والمراهقين المغاربة - أكثر من 11 مليون مشاهدة أظن - استبد بي الفضول ودفعني لمشاهدته باعتباره أفضل فيلم وثائقي مغربي، فتفاجأت بأنه مجرد عمل ''يوتوبي''، نسبة إلى "يوتوب"، بسيط جدا في محتواه، ولا علاقة له لا من قريب أو بعيد بالأبجديات الفيلمية ولا الوثائقية ولا الفنية...ولا علاقة له بالروبورتاج حتى، هو عبارة عن مجموعة من الحوارات ''اليوتوبية'' البسيطة مع مجموعة من الرياضيين البسطاء، وكفى الله المؤمنين شر القتال، لكن التضخيم والتطبيل الذي وقع، سببه أن هذا الفيديو من توقيع يوتوبر مغربي معروف، وهنا كما قلت سابقا الكلمة المفتاح، وأنا متأكد أن أولئك الذين وصفوه بأفضل وثائقي في المغرب، لم يشاهدوا في حياتهم أفلاما وثائقية مغربية، على الأقل، ولم يسمعوا من قبل بإيزة جنيني، ولا أسماء المدير، ولا علي الصافي، ولا أحمد البوعناني، ولا حكيم بلعباس... وغيرها من أسماء أضافت لهذا الجنس السينمائي الكثير.
من السبب في خلط مثل هذه المفاهيم لدى المراهقين والشباب في بلداننا؟ من السبب في جعل هذه الفئة لا تستهلك ولا تقبل على الأعمال الفنية والثقافية الجادة بخلاف باقي ما يعرض في الشبكات الاجتماعية؟ من في يده قرار التوعية والتثقيف والتربية؟
حتما هؤلاء المراهقين لا يحتاجون إلى نقاد بأدواتهم الكلاسيكية يوجهونهم، وخصوصا في بلدنا الذي يحتاج فيه الكثير من النقاد إلى نقاد ينتقدونهم ويوجهونهم، وأكيد أنهم لا يحتاجون إلى مدارس بشكلها الحالي البئيس تعلمهم، ولا إلى أسرة تحتاج هي نفسها إلى أسرة تربيها... ورغم إقبالهم الشديد على مثل هذه المحتويات التافهة في نظرنا نحن الكهول والعجائز وساكنو الأبراج العاجية، فمراهقونا وشبابنا اليوم - سواء رضينا بذلك أم لم نرض - أصبحوا أذكى من الأجيال التي سبقتهم، وأصبحوا يعتمدون على الوسائل التكنولوجية الحديثة للنهل من المعلومات كيفما كانت، واكتساب المهارات والمعارف التي تتطور يوما بعد يوم، هذا الجيل الحديث أصبح له عالمه الخاص لا يتوافق نهائيا مع البنية الإجتماعية والثقافية والتعليمية الهشة في بلداننا.
الشبكات الاجتماعية بكل أصنافها أضحت لها سلطة وتأثيرا على عقول أبنائنا، وصناعها ومحتكروها ينتجون المادة الاستهلاكية بخوارزميات تقرأ سلوك المستهلك، وبالتالي تنتج له مايريده حسب سلوكه الرقمي، ولا يهمها في هذا لا التربية ولا القيم الفنية والثقافية والتعليمية والأخلاقية.
غياب أغلب مفكرينا ومثقفينا ومبدعينا الحقيقيين عن هذا العالم الجديد، واحتقارهم له منذ بداياته الأولى، وجهلهم بأساليبه وأدواته، وعدم مواكبتهم لتطوراته وتحولاته، واكتفائهم بالمشاهدة والمراقبة والتنديد، جعلهم مهمشون ولا صوت لهم، وفتح المجال لمن لديه دراية وخبرة أكثر، وليس من الضروري أن يكون مفكرا ولا عالما ولا مبدعا، قد يكون مجرد تافه لكنه قادر على التأثير.
أساليب القراءة الكلاسيكية اندثرت، وثقافة كيفية المشاهدة تغيرت، وأدوات الإنتاج والإستهلاك تعصرنت بفضل التطور الرقمي، الغرب تأقلم مع هذه التحولات وحاول قدر الإمكان أن يساير عقلية أجياله الجديدة وتفكيرهم بأدوات مبتكرة ومتطورة، فلا مؤامرة علينا كما يدعي بعض الرجعيين، فتخلفنا أمام كل شيء جديد واحتقاره، وعدم فهمه ودراسة تأثيراته الآنية والمستقبلية...هو من يجعلنا نتفاجأ بسلوكيات أبنائنا وتفكيرهم وتصرفاتهم وميولاتهم التي تعتبر عادية في هذا العصر، لكن بالنسبة لنا غريبة ومشكوك فيها لأن تفكيرنا وعقليتنا توقفت في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وننسى أو نتناسى أن بين يدي كل مراهق بيننا شاشة صغيرة ترافقه أينما حل وارتحل هي التي تمثل عالمه، بل عوالمه المتشعبة الأبعاد التي لن تعيها بتفكيرك المحدود مادمت تكتفي بالمراقبة والحوقلة، دون فعل جدي يجعلك أكثر انخراطا وفهما وتفهما لعالم ابنك الجديد.